عند انفصال جنوب السودان بطوع واختيار غالبية مواطنيه دعا السفير السوداني في جوبا وهو أول ممثل للدولة الأم في الدولة المنشقة إلى ثلاث قواعد تنهض عليها العلاقة السوية بين البلدين
أولها تحقيق السلام في المنطقتين بوقف الحرب وحل النزاع سلمياً، ثاني القواعد فتح الحدود بين البلدين وتدفق السلع السودانية إلى الجنوب دون قيود.
ثالثاً الاتفاق الاقتصادي العادل مع جوبا بشأن تصدير النفط والإدارة المشتركة للحقول المشتركة.
الدولة العميقة في الإنقاذ هي من تربصت بالسفير الدكتور مطرف صديق النميري وتحرشت به وأبعدته من جوبا مثلما أبعدت السفير ماجد يوسف من أسمرا وخسرت البلاد موارد وإمكانيات، ودارت حروب بالوكالة هنا وهناك، ولم تحصد الدولتان غير الأسى والحزن والدماء والدموع.
ذلك التاريخ هو الحافز لحكومة الدكتور عبد الله حمدوك لإصلاح ما أفسدته بعض مراكز القوى في الدولة المركزية سابقاً.
ومنذ ثلاثة أيام عادت العلاقات بين البلدين إلى جادة الصواب وقدمت دولة الجنوب ورئيسها الفريق سلفاكير يداً بيضاء للخرطوم لتسوية أسباب النزاعات بين الهامش والأطراف واتصلت جهوده ومستشاره توت قلواك وأثمرت عن اتفاق لاستئناف للتفاوض من خلال إعلان مبادئ يوقع اليوم في حضور رئيس الوزراء الذي جعل من جوبا محطته الأولى في زياراته الخارجية، وهي خطوة موفقة جداً وفي توقيت مهم جداً، وجوبا أقرب للخرطوم من كل الأفارقة كما القاهرة أقرب للخرطوم من كل العرب، وكانت خطوة جريئة من القائد حميدتي وهو يصحب في رحلته إلى جوبا الدكتور رياك مشار القيادي المنشق عن حكومة الجنوب في خطوة تدعم الاستقرار في جنوب السودان.
تبادل المنافع وطي صفحة تبادل الأذى هي الحلقة المفقودة في الفترة الماضية، وإذا كانت حكومة حمدوك قد بدأت متعافية نفسياً من أمراض الماضي البغيض، وتنظر للمستقبل القادم بعين فاحصة ورغبة في طي الملفات القديمة، فإن العلاقة السوية مع دولة الجنوب تحقق فوائدها لجميع الأطراف، فالجنوب هو الوطن الثاني والسوق الكبير لمنتجات الشمال الزراعية والصناعية، والسودان الذي كان يتوهم بعض قادته بأن الجنوب عالة على الشمال قبل الانفصال، فقد أثبتت الأيام عكس ذلك واستبان لكل ذي بصر وبصيرة أن الجنوب هو من كان يحمل الشمال على أكتافه وينفق عليه من موارده.
ضاعت سنوات في الخلاف بين الدولتين وأهدرت موارد مادية، وأهلكت أنفس عديدة في حروب لا طائل منها بين حكومة الجنوب ومنشقين منها وبين حكومة السودان ومحتجين على سياساتها، ولكن الآن يعود الوعي السياسي والاجتماعي والاقتصادي لكلا الدولتين، وتبدا صفحة جديدة بإيقاف الحروب الحدودية ومساعدة الدولتين لبعضهما من أجل عودة السودان الكبير وطناً مشتركاً في دولتين منفصلتين سياسياً ولكنهما متوحدتين اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً في عالم ماع ادت تفصله تضاريس الجغرافيا ولا فواصل الأيدلوجيا.
كاتب هذه السطور يعود لجوبا اليوم بعد سنوات ليتأمل في وجه السمراء فاتنة الحسن بهية الطلعة ويقرأ تفاصيل المشهد السياسي من خلال التوقيع المنتظر للاتفاق السياسي الإطاري.