باتت عاصمة جنوب السودان، محطة مهمة تُسهم في ما يجري في جارتها وشقيقتها الكبرى الخرطوم، فما يجري الآن بين أهل الحكم في المجلس السيادي والحكومة وبين الحركات التي تحمل السلاح، هو نتاج جهود لعبت فيها جوبا وخاصة الرئيس سلفاكير دوراً كبيراً واستطاع بحذق أن يجمع هذا الملف بين يديه بعد أن تاه موضوع السلام ما بين أديس والقاهرة وعواصم أخرى، ومن العسير التنبؤ بما ستُسفِر عنه مُحادثات جوبا التي وصلها وفد رفيع من المجلس السيادي بقيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو الذي يحتفِظ بعلاقات جيدة مع مكونات الجبهة الثورية، وسبق أن أجرى معهم مباحثات في أنجمينا وأسمرة وجوبا نفسها، وعلى اتصال دائم معهم، كما أوفد رئيس الحكومة الدكتور عبد الله حمدوك موفداً عنه.
وسبقت الجبهة الثورية الجميع بالتئام اجتماعاتها وتوصُّلها لنتائج مُهمة أعلنت عنها وتمّت هيكلة قيادتها واختارت هيئة قيادية جديدة، وأصدرت بيانات تؤيد الاستمرار في التفاوُض وعملية السلام ولا تختلف مع الحكومة الانتقالية التي تم تكوينها، هذا رغم ما خلفته مرارات اجتماعات أديس أبابا التي باعدت الخطى بين الجبهة الثورية وقوى إعلان الحرية، وأدى ذلك إلى إبعاد حاملي السلاح جميعاً من المشاركة في الحكومة.
في حال تم اتفاق في جوبا، سيتبع ذلك بالطبع تعديل حكومي وإدخال ملف السلام وما تم إقراره من قبل بأديس أبابا وتضمينه في الوثيقة الدستورية مع ترتيبات أخرى، مع العلم أن وفد المجلس السيادي بقيادة الفريق أول محمد حمدان ومعه عدد من القيادات العسكرية والأمنية، يعني أن ملف الترتيبات الأمنية والعسكرية سيكون على الطاولة، فأي اتفاق وتفاهُم حوله سيُمهّد الطريق نحو الاتفاق وإلحاق الجبهة الثورية بالمحاصصة الحكومية وإشراكها في السلطة على المستويات كافة .
ويبدو أن هناك ثقة كبيرة في نجاح هذه الجولة، وليس مُستبعَداً أن المجلس السيادي ورئيس الوزراء هما الأحرص على إبرام اتفاق، لطي ملف الحرب والسلام أولاً، ثم معالجة الأخطاء وسوء التقديرات والمُحاصصات التي تمّت في اختيار الحكومة رغم قِصَر عمرها، فدخول الجبهة الثورية يعني إشراك عدد من مكوناتها التي تحمل السلاح، فمن الطبيعي أن تُمثّل في المجلس السيادي أو حتى في الحكومة، والمشاركة في الحكومة أقرب موضوعياً من المجلس السيادي، بالإضافة إلى سبع ولايات يُمكن أن يُسنَد منصب الولاة في بعضها للجبهة الثورية التي تبدو أكثر حرصاً على ذلك .
إذا كانت جوبا تبذل كل هذه الجهود للمساهمة في إزالة الخلاف وإنهاء حالة البرود بين الحكم الجديد في الخرطوم والجبهة الثورية، فإنها ستربح بالفعل في عدة اتجاهات، فأولاً تكون قد ضمِنت لحلفائها من حركات دارفور وتابعيها في الحركة الشعبية شمال، وجوداً فاعلاً في السلطة ودوراً وتأثيراً في مسارات الحياة السياسية السودانية، ثانياً تطمح إلى تحريك الملفات التي تخصها مثل الاتفاق الذي أُبرِم في عهد الرئيس السابق عمر البشير مع المعارضة الجنوبية ولم يتم التنفيذ الكامل للاتفاق، الشيء الثالث، أنها ستكسب سياسياً من التفاهُم والاتفاق الذي سيتم بعد أن أخفقت القاهرة وأديس في إدارته وتذليل عقبات الحوار السوداني – سوداني ..
فإن تم كل ذلك، فإن المشهد سيُعاد رسمُه وتخطيطُه مرة أخرى، وستُولَد قضايا أكثر تعقيداً خاصة ما يتعلق بالترتيبات العسكرية والأمنية خاصة أن هناك أحزاباً وقوى سياسية تحلُم بإعادة هيكلة القوات المسلحة ودمج قوات الحركات فيها، وكذلك الشرطة وجهاز المخابرات العامة، وهذه مسألة إن لم تُحسَم بين أهل الشأن والمصلحة أنفسهم في اجتماعاتهم في جوبا ستُولَد أجواءٌ أخرى لن تمُر بسلام ..