ضاعَت الفرصةُ وفات الأوانُ ..!
كما قُلنا من قبل إنه من العدل ألا نتعجّل في الحكم على أداء الحكومة رغم وجود دلائل لا تقبل الجدل، أنه تمّ نكث العهد ونقض الوعد بأنها ستكون حكومة كفاءات مستقلة، فالانتماء الحزبي الصارِخ هو سِمة كثير من الوزراء، وظهرت منقصة الكفاءة المفقودة في بعضهم، وقلة الخبرة الكافية وعدم الإلمام بتعقيدات القضايا وضمور المعرفة بدولاب الدولة ونظامه، وهذا مؤشّر ذو مردودٍ سالِب على الحرية والتغيير، وعلى رئيس الوزراء الذي قَبِل بحكومة هذه سِماتُها، وعلى المجلس السيادي الذي اعتمدها، وحتى الفحص الأمني كان إجراءً روتينياً معهوداً، لكنه ليس القول القاطع. فالتقديرات التي تنتج عن جرح وتعديل حقيقي كانت ستنتج حكومة أقوى وأفضل في كفاءتها التنفيذية، والابتعاد عن المُحاصصة الحزبية، كان سيُعطي ثقةً أكبر في بناء مؤسسات دولة فتية ذات قُدرة على تخطّي المرحلة الراهنة وتُعزّز الثقة في مفهوم بسيط هو الوطن أولاً قبل الحكومة، وفرقٌ كبير بين إعادة الثقة في مؤسسات الدولة الوطنية وسلامتها من كل نقصان وكفاءتها، وبين تعيين حكومة تملك القرار السياسي لتُدير هذه المؤسسات ..
كانت شعارات جوقة الحكومة ومؤيديها في الفترة السابقة هي التبشير بإعادة بناء مؤسسات الحكم وتهيئتها للقيام بواجباتها حتي نصل إلى أجهزة ومؤسسات حُكم مستقرة لا تخضع للأهواء قوامُها المهنية وخدمة الشعب والحفاظ على مصالح البلاد العليا دون أن تنجر هذه المؤسسات والأجهزة إلى حضيض الغلواء السياسي والحزبي، لكن أضاعت قوى إعلان الحرية والتغيير الفرصة الثمينة بتقديمها في كثير من الوزارات كوادر حزبية مُلتزِمة لا علاقة لها بالعمل التنفيذي، ولا يمكن أن تتعلمه من علٍ، وليتها كانت قيادات من الصف الأول، فلا تغُرنّك السِّيَر الذاتية المُعدّة لبعضهم، فالأكاديمية دون خبرة عملية قد لا تنجح رغم التفوّق العلمي والمعرفي، فعامل الخبرة والدِّربة والمُعايَشة والارتباط الوثيق بمجال العمل وفهمه والمهام الموكلة والتوفُّر على معلومات كافية وابتداع واستنباط رؤية متكاملة في مجال الوزارة المُحدّدة، هي عوامل مُجتمِعة تضمن النجاح ..
ليتهم في اختيار الحكومة وشاغلي مواقع المجلس السيادي، عجموا العيدان جيداً بعد نثر كنانتهم، ونخشى أن يستبينوا ذاك ضُحى الغد، فالساحة مُقبِلة على تطوّرات بالغة الدقة، هناك أزمات اقتصادية ليس مُتوقَّعاً أن تُحَل اليوم أو غداً، وهناك حالة استقطاب سياسي بدأت مَعالِمها تتبلور بقوة وبسرعة، لا مكان فيه للضعيف، فالتكتُّلات السياسية الكبيرة في أجواء الحرية والديمقراطية ستكون أكثر حِراكاً وأوسع نطاقاً، وستنشُر بُردتَها في كلِّ مكان، والفضاء المفتوح للإعلام وشبكات التواصُل الاجتماعي ستُوفِّر كلَّ صغيرة وكبيرة من المعلومات والأخبار والمنقولات والمروي داخل الحكومة وحولها في سِرّها وعَلانيّتها، ولا تستطيع هذه الحكومة بما نراه اليوم من ضد ومجابهة كل أنواع الترصّد السياسي وانتقادات الإعلام والصحافة، وقبل هذا كله المواطن الذي ينظر إليها بأمل كسير وثقة ضئيلة ورجاء مفقود، ومعروف أننا نتعامل مع مزاج عام ملول للغاية وانطباعات إن تشكّلت اليوم لا فكاك منها ولا منجاة .
الشيء الأهم، أن العقلية السياسية التي تقف وراء الحكومة وتعاطيها الإعلامي والدعائي وخطابها للشارع، لم تتحلّ بواقعية سياسية تجعلها تتدرج في رفع سقوف التطلُّع والأمل، أعطت المواطنين والشارع جُرعة عالية وكأن ما يبتغون سيأتي بين طرفة عين وانتباهتها، وتشهد أن بعض قادة الحرية والتغيير كانوا يقولون للناس إنه بمجرد تشكيل الحكومة المدنية ستفتح دول العالم خزائنها وسيتدفّق الدعم الدولي من كل مكان، كانوا يتحدثون في ثقة وكأن مائدة من السماء ستنزل بمجرد أن تُنصَب قوائم المدنية، وتُغرَس أوتاد خيمتها ويعلو الحداء وصفير الصافِر!..
لكل ثورة أحلامُها وتطلّعاتُها وشعاراتُها، لكن يجب أن يكون لها عقلاؤها وحكماؤها ومن يجيدون فن أن يُرَاش السهمُ قبلَ الرمي، فحكومة الحرية والتغيير وهي شذر مذر، مطعونة في حيادها واستقلالها، معطوبة في الخبرة الشحيحة، ستحتاج وقتاً طويلاً لتتعلم وتجمع ما يفيدها من معلومات وبيانات وفهم طبيعة ما طرأ خلال عقود طويلة في مجال العمل التنفيذي، كما أن الوزارات واختصاصها ودمج بعضها دون تصوّر واضح خاصة أن هناك وزارات ضخمة جداً كانت في السابق عدة وزارات تحوّلت الآن لوزارة واحدة يصعُب مع التطوّر الكبير في مجالات العمل التنفيذي وتعدّد وظائفه واتساع المجتمع وحاجاته أن تُدار بالطريقة التي صُمِّمت بها الحكومة، ولا يقوى وزير واحد أن يديرها بكفاءة ويتابعها بنجاح… الأمور صعبة، وكان الله في عون حمدوك …