فلنحكِم على الحكومة بأعمالها ..
تحتاجُ حكومة الفترة الانتقالية التي أُعلنت أول من أمس إلى وقت ليس بالقصير، حتى تخرج من دائرة الأمنيات والتطلُّعات وما يُسمى بالوهم الثوري، لتواجِه بعدها الحقائق كما هي، وتوجد بالحكومة وجوه وكفاءات وخبرات لو تُركِت لتعمل دون شطط سياسي أو هيجان عاطفي يمكنها أن تتلمّس طريقاً وسط أزمات بعضها فوق بعض.
ليس مطلوباً من الجهات السياسية التي تقف وراء الحكومة، وهي قوى إعلان الحرية والتغيير أن تزحم وتحشو تفكير حكومة السيد حمدوك بالشعارات الهتافية وسقف التطلعات العالي، فما يواجه الوزراء الآن أكبر من مجرد التفكير في غير الحلول الموضوعية والمتعقّلة للأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية والبحث عن سلام يُنهي حالة اللاحرب واللاسلم، فالبلاد لا تزال هشة، والرباط الوطني الذي كان يعمر الوجدان القومي قد تقطّعت أسبابه وانفرط عقده، وهناك ما يجعله الآن أكثر اهتراءً لو لم ينتبِه إليه الجميع .
ما يُثير القلق حقاً، أن صوت السياسة ظلَّ أعلى من أي صوت آخر، وحالة التخيّل الثوري لا تزال تُسيطر على ما يُكتب ويُعلَن ويُصرّح به ويُطلَق في الهواء ليلتقطه الرأي العام، لا توجد حتى اللحظة آراء مُحكمة وواضحة لكيفية مُجابهة المشكلات المُعقّدة التي تُعاني منها البلاد، كل ما يُقال حتى من رئيس الوزراء وبعض الوزراء، مجرد أقوال ابتدائية أولية فيها التقييم والرأي الشخصي، ولم تصدُر عن رؤية كُليّة جامِعة أو برنامج حكومي أو سياسي تم وضعه وينبغي التقيُّد به ..
في المسألة الاقتصادية، يجب أن تظهر بأعجل ما تيسّر خطة الحكومة الكاملة للإصلاح الاقتصادي وِفق تدابير عملية وتنسيق كامل في كل وزارات القطاع الاقتصادي وأدواته وآلياته، تضع الأسس السليمة لإنعاش الاقتصاد واسترداد عافيته. هناك الكثير من الأوراق والأفكار العامة طُرِحت من قبل، طرحها رئيس الوزراء ووزير المالية الجديد، وقدّمت مجموعات داخل التحالُف السياسي الحاكِم من قبل كمجموعات عمل، نوعاً من العصف الذهني حول الاقتصاد، لكنها بالقطع كانت في البر وليس عوماً في البحر، لم تختبر التجربة العملية والواقع ما قدّموه من آراء، فالمُعضِل الاقتصادي بكل تشابُكاته والشائك منه لا يُمكن من الوهلة الأولى النظر إليه من الخارج ووضع تصوّر لعلاجه، هناك تحدٍّ بِنيَويٍّ يتعلّق ببِنية الاقتصاد وهياكله وماكينزماته المختلفة، مع عِللٍ أخرى من الصعب القول إنها ستُواجَه بضربة لازب، ومِسحة على مصباح علاء الدين، وهنا لابد للحكومة من إعلان عاجِل عن مقدمات وخطوط عريضة لبرنامجها الاقتصادي العاجل، وإلا فإن الإحباط الأول ـ وهو الأقرب ـ سيظهر قريباً لدى الشارع، والمواطن البسيط إذا شعر أن الأزمات تتناسل وتتلاحق ولا مغيث .
قلّل قادة الحرية والتغيير من أهمية السلام وإنهاء الحرب، وهذا تسبّب في الجفوة العميقة بينهم والجبهة الثورية إحدى مكونات تحالفهم، ورغم وجود مؤشرات إيجابية عقب اجتماعات الحركات والجبهة الثورية مؤخراً في العاصمة الجنوب سودانية جوبا، فإن قضية السلام وإدماج الحركات المسلحة في المسار السياسي تحتاج إلى عملٍ عاجلٍ وجادٍ، ولو لم تُعلن حكومة السيد حمدوك عن توجُّهات عملية سريعة يتم التنسيق فيها مع المجلس السيادي وبقية أجهزة الدولة لإقرار سلام عادل، فإن شبح الحرب سيظل قائماً، وهذا يُعطّل التنمية، ويُضعِف من توفُّر الخدمات ويستنزِف موارد الدولة، وسيحتوي قطاع الأمن والدفاع جُل الموارد لدى الحكومة، لأن الصرف على الحرب وتأمين مناطق النزاعات لا يُماثُله صرف آخر، ونخشى أن تجد الحكومة ووزارة ماليتها أنها مُلَزمة بتوفير احتياجات حالة الحرب كما كانت في السابق، وإلا ستصل الحرب أو آثارها المدمرة إلى تخوم الخرطوم .
أما بقية التحديات التي ستُختبر فيها الحكومة فهي قدرتها على إدارة عملية سياسية نظيفة، إذا ذهبت في اتجاه الصراع وتصفية الحسابات، ستغرق بمركبها في مستنقع من الرمال المتحركة، لأن هذه الحكومة لا يمكنها الادعاء بتمثيل الشعب كله، هناك من يعارضها وهم كثُر يمثلون تيارات سياسية ذات قدرة وخبرة عالية في العمل السياسي، ولها امتدادات عميقة أفقية ورأسية تستطيع صناعة تحالُفات قوية وذات تأثير وشوكة، كما أن الشارع بطبيعة الشعب السوداني، شارع انطباعي وملول لن يصبر على طعام الحكومة الواحد وهو الكلام والأماني العذبة ..
قمة المسؤولية أن يتجه السيد حمدوك وحكومته إلى حقل العمل الحقيقي، هو إعادة تأهيل الاقتصاد، وبناء مؤسسات حُكم تقوم على رؤية وطنية وأفق سياسي يتجاوز الراهن ويفتح نافذة تطل على واقع جديد، فغير ذلك، هو تكرار للأزمة السودانية منذ الاستقلال، ومع ثقتنا في قدرة رئيس الوزراء على استبصار مستقبل حكومته، ألا أننا نخشى أن يتهمه البعض مُستنكِراً ما تمخّض به جبل المشاورات التي أفضت للحكومة بأنه ــ أي السيد حمدوك ــ سيكون جنرالاً بلا جيش ..