حديث السبت.. تفاصيل أخرى عن محاولة اغتيال مركزو
الصادق المهدي وجه أسلامي في ثوب علماني
*عند الساعة التاسعة صباح الثلاثاء امتطى اللواء متقاعد محمد مركزو كوكو سيارته اللاندكروزر ووضع بجانبه حقيبة المال لسداد استحقاقات عمال (الكديب)، وهؤلاء يسمون في كل منطقة باسم مغاير في الجزيرة عندما يأتون في موسم جني القطن يطلق عليهم اسم الجنقو أو الكتاكو، وفي المشاريع الزراعية بالقضارف يسمونهم الجنجقورا، وأعظم رواية جسدت عالم العمال الموسميين آمالهم وطموحاتهم كانت رواية الجنقو مسامير الأرض.
اتجه مركزو نحو مزرعته بمنطقة مارديس بجبال النوبة الكواليب، وهم عشيرته وأهله الذين حملوه على أكتافهم إلى البرلمان القومي ممثلاً لهم مثل والده المربي والإنسان مركزو كوكو نائب دائرة دلامي في الجمعية التأسيسية عن الحزب الاتحادي الديمقراطي.
كانت المدينة الصاخبة الدلنج عروس الجبال تضج بالحركة، الأسواق عامرة بالناس بعد أن تواصلت الأرحام ما بين مناطق تسيطر عليها الحكومة وأخرى تسيطر عليها الحركة الشعبية، وسوق الدلنج يفيض بخيرات الخريف لبن وسمن وطماطم وتبش وفول مقلين وعيش ريف، أي ذرة شامي. وقوى الحرية والتغيير انحسر صوتها وارتفع صوت الحركة الشعبية قطاع الشمال، والطريق إلى هبيلا حيث يستثمر مركزو في الزراعة وفي الخضر والفاكهة بمدينة الدلنج، وقد كسر الرجل تقاليد قادة المنطقة حيث أصبحت جنوب كردفان أكبر مستودع للساسة العاطلين عن العمل، ينتظرون الوظائف الحكومية ولا يزرعون الأرض التي ظلموها وظلمهم العقل المركزي الذي خطط المشاريع الزراعية في سبعينات القرن الماضي، حينما طرحت عطاءات عبر الصحف لبيع أراضٍ جبال النوبة للتجار القادرين مالياً وبين عشية وضحاها وجد النوبة أرضهم وأرض أجدادهم تملكها القادرون مالياً من السودان النيلي، وتركوهم إما رعاة بقر أو عمال نظير أجور زهيدة فحمل بعضهم السلاح في وجه الدولة المركزية
من المظلات للبرلمان
* مثله وأبناء جيله كان مركزو مولعاً بالجندية والعسكرية التي تمثل حلماً يتوق إليه الفتيان والنوبة والبقارة والشايقية يمثلون عظم ولحم الجيش السوداني حتي عهد قريب قبل أن يصبح الشايقية حكاماً ودولة ويصبح النظرة للنوبة كمتمردين والنظرة للبقارة كجماعة تحمل في تكوينها جينات تمرد وخلق صورة متوهمة عن نزعتهم (التعايشية) أي منسوبين للخليفة عبد الله التعايشي.
وفي سبعينات وثمانينات القرن الماضي كانت الدولة المركزية أكثر اعتدالاً في نظرتها لرعيتها وأبواب المؤسسات العسكرية مفتوحة لأبناء السودان جميعاً لا أثر للتمييز على أساس القبيلة واللون، وتم قبول محمد مركزو كوكو في الكلية الحربية من غير (واسطة)، ولا بتزكية من أحد، وأبناء المنطقة في القوات المسلحة حينذاك يسدون ضوء الشمس في نهار شهر مايو. كان تاور السنوسي في سلاح المهندسين وإبراهيم نايل إيدام معلماً في الكلية الحربية، ومحجوب كجو ضابطاً صغيراً في سلاح المظلات، وحمد عبد الكريم السيد في سلاح النقل، والشفيع الفكي علي في القيادة الغربية، ومحمد جرهام في الفرقة الجنوبية، وآلاف المقاتلين من أبناء النوبة وطموح مركزو خدمة وطنه ورفع اسم والده وأصدقائه وعشيرته من قبيلة الكواليب إحدى كبرى المجموعات النوبية. ويمتد وجودها من شرق الدلنج حتى الحدود مع الحوازمة الحلفاء في أمبرمبيطة. وتتداخل مجموعة الكواليب مع العرب الحوازمة الرواوقة والعياتقة، وهم فرع من البديرية، ومع النوبة هيبان والعطورو، والنوبة الغلفان.
واشتهر الكواليب بالذكاء والنبوغ والشجاعة في القتال ومن رموزهم البروفيسور العالم كبشور كوكو والبروفيسور خميس كجو كندة.
وعندما يحمل الشاب الصغير اسم قبيلة كبيرة تصبح عبئاً مثقلاً على أكتافه. في الكلية الحربية كانت أولى اكتشافات المعلمين الضباط لشخصية الطالب الحربي كان مركزو رياضياً ذا بنية جسمانية متناسقة وذكاء وفطنة فاختاروه كضابط في سلاح المظلات القوات المحمولة جواً، وفي داخل المظلات انتمى للقوات الخاصة لينال التدريب في الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا، وخاض معارك ضارية في الجنوب وجبال النوبة، وهو أول من اقتحم مطار كدبر وطرد التمرد منه، وخاض عملية جبل روابة، وعندما تم استيعاب صلاح قوش ودفعته في جهاز الأمن تولى مركزو تدريبهم وتأهيلهم، لذلك طلب قوش لاحقاً أن ينضم مركزو لجهاز المخابرات ويستفاد من قدراته وإمكانياته في التأهيل والتدريب، وحينها بدأ جهاز الأمن مرحلة الانتقال إلى قوة مقاتلة بعد أن أحاطت بالسودان المصائب والحروب، وقاد مركزو قوة جهاز الأمن التي تصدت للتمرد بالشرق في أطراف مدينة كسلا وفي تلكوك وهمشكوريب، وتقديراً من الدولة لشجاعته وبسالته منحه الرئيس وساماً رفيعاً جداً، وسام الشجاعة، الذي ينص قانون القوات المسلحة على إضفاء حماية لمن يبلغ هذه المرتبة الرفيعة.
وبعد انقسام الحركة الإسلامية وتصدع المؤتمر ما بين الشيخ والفريق والمنشية والقصر، تم تعيين مركزو في وظيفة وزير دولة بالطرق والجسور لتكتشف فيه مواهب أخرى وقدرات سياسية رفعته لمنصب الوالي في جنوب كردفان حتى توقيع اتفاقية السلام التي قضت تدابيرها بالتخلي عن منصب الوالي، ومن قبل ذلك تخلى الشاب مركزو عن منصبه كعضو بالبرلمان .
طوال فترة تقلبه في المواقع التنفيذية والسياسية لم يمد يده للمال العام ولم يتورط في فضيحة مالية أو أخلاقية كان قومياً في سلوكه ومنهجه وإنسانياً في تعاطيه مع القضايا العامة .
العودة للدلنج
* بعد إنهاء التكاليف الدستورية كان بمقدوره الاسترخاء في الخرطوم والحصول على مواقع لنفسه في الحزب والدولة وانتظار العطايا ووظائف الإعاشة وأن ينال موقعاً في الصناديق التي أنشئت للإعاشة وفوائد ما بعد الخدمة السياسية، ويصبح مثل قادة صندوق جبال النوبة الذين تدفع لهم المرتبات من أجل رغيف البيت وإعالة الزوجات، ولكن الشاب الطموح عاد للدلنج مدينته يزرع في هبيلا وكرتالة ومارديس ويعمل بالتجارة العامة يأكل بخدمة ضراعه وعرق جبينه، ولا يسأل والياً إعطاءه دراهم ودولارات علاج، أصبح علماً وسط أهله يمنح ديوان الزكاة سنوياً ألف جوال ذرة ويوزع ضعفها على الفقراء والمساكين ويستضيف الزوار وعندما سقطت الإنقاذ كان مركزو بعيداً عنها .
من وراء محاولة الاغتيال
وقائع محاولة اغتيال مركزو تكشف عن تمادي الحركة الشعبية في نهجها القديم باستهداف القيادات المجتمعية والسياسية والأهلية من أبناء المنطقة عامة وأبناء النوبة بصفة خاصة، والحركة الشعبية منذ ميلادها ظلت تنظر للقيادات المجتمعية كمصد لمشروعها السياسي، لذلك عمدت لتصفية واغتيال القيادات التي رفضت الانضمام لها والانسياق وراء مشروعها، وشهدت ثمانينات القرن الماضي اغتيال أئمة المساجد والخلاوى وتصفية زعماء الإدارة الأهلية بقسوة، وتحفظ ذاكرة الناس في جبال النوبة اغتيال المك أرنو واغتيال كبي الغزال، وتصفية حمد عبد الكريم السيد، ومحاولة اغتيال الراحل الشهيد مكي علي بلايل، واغتيال محمد إبراهيم بلندية، وعشرات القيادات والرموز بغرض إفراغ الساحة من القيادات .
ظل اللواء محمد مركزو هدفاً للحركة الشعبية، وهي تنظر إليه كخصم وعدو لها ينبغي التخلص منه ولكنه كان عصياً على الانكسار لها وصاحب رؤية وموقف من التمرد، ولذلك فإن مركزو لم يدخل في الخصومات في الساحة، حتى قوى الحرية والتغيير لم تبادره بالعداء، ولم يعرف عنها حتى الآن نزوعاً نحو التصفيات، ولذلك من يعتقد بأن قوى الحرية والتغيير يمكن أن تزرع لغماً لاغتيال قيادي في وزن وقيمة مركزو واهم، وقوي الحرية والتغيير هي الدولة والحكومة بيدها مفاتيح السجن فلا حاجة لها للقيام بسلوك غير قانوني، والرجل أي مركزو بلا صراعات محلية في مجتمع لا يعرف مثل هذا الغدر ليصبح الخيار الراجح بأن الحركة الشعبية هي من نفذت عملية الاغتيال وزرعت اللغم في طريق مزرعة مركزو.
المئات من القيادات والرموز الاجتماعية التي هرعت للسلاح الطبي يوم الأربعاء الماضي والاهتمام الذي وجده مركزو من عضو المجلس العسكري الفريق شمس الدين كباشي ومن الفريق جلال الدين الشيخ ومن أبناء الولاية، يؤكد الثقل الكبير لمركزو في كردفان ومكانته في قلوب الناس، ورصيده الحقيقي في بنك الجماهير التي لا تخون من يصدق معها .
الصادق المهدي بين واقعين
*وجه الإمام الصادق المهدي انتقادات علنية لحلفائه من قوى الحرية والتغيير ومكونها اليساري بصفة خاصة وكان المهدي يتحدث في مؤتمر بالعاصمة الأردنية عمان، واختار الإمام الصادق المهدي السكوت ومسايرة قوى اليسار العلماني في الداخل عند الحوار على وثيقة الدستور الانتقالي والسكوت عن تجاهل الوثيقة للإشارة لدين الأغلبية الإسلام وتجاهلها الإشارة حتى للشريعة الإسلامية كمصدر من مصادر التشريع، مما عده التيار الإسلامي بكل مذاهبه توطيناً للعلمانية في بلد أغلب سكانه من المسلمين والإمام الصادق آثر السكوت على تلك النقائص والثغرات والعيوب أثناء التفاوض حول الوثيقة الدستورية، إما حرصاً علي تحالفه مع اليسار من التصدع والانقسام او خوفاً على نفسه وحزبه من اتهامه بالميول الإسلامية، وبالتالي إقصاء الحزب من حكومة حمدوك التي يجري تكوينها، ولذلك صمت الصادق المهدي في الداخل وتحدث في الخارج مشيراً لهذه الثغرات، والإمام الصادق يجد نفسه في كثير من الأحيان مضطراً لاستخدام قبعة المفكر الإسلامي العصري، وأحياناً يصبح سياسياً واقعياً متقدماً على الاسلام الحركي نحو اليسار الذي استطاع أن يحدد هو عبر آلياته مَن مِن حزب الأمة يصبح عضواً بمجلس السيادة، ومن يصبح وزيراً، وقد سعى الإمام لإبعاد ابن التعايشي من المجلس السيادي لكنه فشل فى ذلك، وتم تقديم التعايشي الأقرب وجدانياً وثقافياً وفكرياً إلى الحزب الشيوعي من خلال تجمع المهنيين، ووجد الإمام الصادق نفسه أمام حصار اليسار داخل حزبه وحصار ما تبقى من نفوذ لأبناء التعايشي بعد أن ذهب القيادي أبوعبيدة التعايشي لصفوف حركة تحرير السودان برئاسة مناوي وغيب الموت النقيب م صلاح عبد السلام الخليفة، ونجح الإمام الصادق في حجز مقعد شرق السودان والدفع بنائب دائرة كسلا في انتخابات ١٩٨٦حسن شيخ إدريس للمجلس السيادي، ولكنه فشل في إيجاد مقعد لمرشح حزب الأمة لحكومة حمدوك صلاح مناع الذي يمثل رمزية مهمة للحزب بعد أن قدم حزب الأمة وزير المالية إبراهيم البدوي من كردفان ومفرح من كردفان أيضاً، لكن اليسار أمسك بأهم الوزارات في الدولة، وحينما يوجه الصادق المهدي نقداً للوثيقة الدستورية، ويقدم نفسه وحزبه كتيار وسطي بين شطط اليسار وراديكالية اليمين، فإنه يحاول قدر استطاعته لعب دور القيادي المعتدل لكن حلفاء المهدي لا يريدون صوتا إلا التغريد بلحن العلمانية فقط.