«أ»
ليس لأنه يسافر على متن السحاب ويُمسك بمقود الرياح، لكنه كان مولعاً بالهضاب والقباب والقمم العوالي وذرى الجبال، لم تطأ عينه سطح التراب، أنفه شامخ كقمة جبل «كوونجو» وجبينه يسطع كما رمال وادي أزوم في ساعة الظهيرة اللافحة، وتتلألأ في فياح وساحات قلبه حبيبات الطموح مثل تلك الذرات الصغيرة تتلامع متمازجة في أتربة مدينة زالنجي الطينية والحجرية كظاهرة جيولوجية غريبة، ردها العارفون إلى شظايا وفسيفساء من الجزئيات الدقيقة تناثرت قشرة صخرية شديدة التوهج.
كان هو من منمنمات الحياة يصفر بمزمار من قصب! كما وصف عبد الله الطيب الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور في حوار أجرته معه مجلة الآداب البيروتية لصاحبها سهيل إدريس في عقد السنوات الستين من القرن الماضي.
كل ما يلوح منه كان لافتاً، عيناه معلقتان في مناط الثريا، لم يعرف طعماً في فمه مثل مذاق الطموح الباذخ وانثياله المتدفق كينبوع مجنون في أغوار نفسه في تعاليها نحو الفضاء البعيد.. والسامقات النواضر.. والسحابات المواطر… والنجيمات الزواهر.
كانت الأقمار تسقيه من دنانها، والشموس تُكرعه الضوء من أقداحِ حانها، والبروق الزرق في أقصى منازل الغيوم تسكبه في ألحانها.
لم يكن يوماً قريباً من الثرى قلبه، وليس بعيداً عن الثريا دربه، ينزلق في مسار الحياة كشهاب لا يعرف مكاناً وزماناً وميقاتاً ينقضي فيه عمر الوهج القوي العنيد.
كان الليل مسلول الجوانح، ومن منامه الأخير كان يأتي صوت هادئ شديد بياض المعنى لمحيي الدين فارس:
تخبو مصابيح الخيام.. تموت ثرثرة النهيرات الصغيرة
قابيل ثانيةً يحاول قتل هابيل
فتنتفض القبيلة والعشيرة
والنمل يخرج من مغارات الجبال مهاجراً
يعلو.. ويهبط في النتوءات الخطيرة
وحدي.. أصد الليل
يُفلت من يدي ويطل منه الوحش
تزحمني الأعاصير المغيرة
قابيل ما هشَّت لك الأبوابُ
ما ضحكت لمقدمك المماشي
والممراتُ المضيئة.. بيني.. وبينك عالم الظلمات
سبعة أبحر سود ودورات الفصولْ
هدأت طبول الغاب لكنْ في دمي صخب الطبولْ
غاصت عيوني في مغارات الضباب
تغربل الدنيا وترصد في البعيد مصادم الأشياء..
عند مخاضها.. ومغارب الأضواء في ثبج الأصيل
قابيل ثانية يحاول قتل هابيلٍ..
وقد غنى له الشعراء في عرس الضحايا
أشعل حرائقك اللعينةَ
فالرياح تمد ألسُنها
تسافر باللظى المجنون
تلتهم الضحايا
صدئت هنا الكلمات..
زَيْفٌ أيها الشعراء أضرحةُ العبارات الخُواء
السيل جاء
الموت جاء
هدرت مواويل البحار الهُوج
تقتلع النبات الرخو.. تلتهم الغثاء
يا أيها الموتى زجاج الموت أعينكم.. ترى شبح الفناء
فتحتفي بالقادمين على توابيت الدماء
«ب»
ثلة من تلاميذ صغار في مدينة زالنجي بمدرستها ذات الرأسين العريقة، كان بيننا صديق وزميل.. غريب، فيه سمت لم تخطئه أعين العالمين ببواطن الدنيا وقراءة المستقبل، يُجمعون أن شأناً سيكون لهذا الصبي الصغير الحاد النظرات، والعميق الصوت هادئه وساكنه، إلى درجة سكون الموتى في مقابرهم، لم يسكن قلبه لهو البراءة والوداعة الأولى، ولا عبث الأغرار في ملاهيهم ومعابثاتهم..
لم يكن ينشد معنا الأناشيد بألحانها في حصة العربي كسائر الطلاب، لا يخرج صوته من بين شفتيه، ولا لاعب معنا الكرة في حصة التربية البدنية ولا الجمباز، كان مُطرقاً طوال اليوم يكتفي بنصف ابتسامة لم تبن فيها نواجذه، لكن ذلك الشعاع الباهر المنبعث من بؤبؤ عينه يحكي شيئاً آخر، كان نحيلاً كعود الخيزران، تتضاءل الدهشة في وجهه، لكأنه يضع قناعاً عليه، لا تعرف مشاعره في حقيقتها، خافه زملاؤه في الفصل وحذروا منه وتجنبوه إلا لماماً.. لأنه لم يعط أحداً فرصة للغوص في أعماقه الطفلة العميقة التي شكلها لعب الحواري والطين والعدو خلف الطيور والفراشات الملونة والسباحة في البرك وعند متقطعات الماء في وادي أريبو وكرة الشراب.. وعربات الأسلاك بزركشاتها وزينتها الملونة…
كان يجلس وحيدًا منفردًا، ونحن نتسلق أشجار النيم والبعض يقتطف ثمار الشجرة الصفراء متذوقًا طعمها المستساغ، لم يجلس تحت نور القمر في ليالي الصيف الدافئة يتسامر مع أترابه، لا بد أن سراً وراءه.. لكنه في خريف التساؤلات لم يكن هناك سر.. فقط كان الفتى ينظر لما وراء تلك الظلال والحجب نحو سماء وفضاء بعيد…
«ت»
ذات مساء ومدينة زالنجي هادئة في ليلة من ليالي الشتاء في النصف الأول من السنوات السبعين من القرن الماضي، والقمر في محاقه انتحل جسمه وذوى كغصن جاف، والليل نشر بردته، كنا نتجارى قُبيل صلاة العشاء بين طرقات الحي ثلة من الصغار الأغرار…
جاء صوت مذياع من ناحية البيت العتيق الكبير للديمنقاوي سيسي، وأغنية عبد الرحمن الريح وصوت الفنان الذري إبراهيم عوض:
في المرأى الجميل ألقاك..
وأحس أن روحي معاك
في الفجر البناجي النور
في سرب من فراش وطيور
في بسمة صغير مسرور.. في لهفة قلب يهواك
وألقاك واحة فوق البيد.. وألقاك مبتهج وسعيد
لو يفنى النهار ويبيد
موفور الضياء محياك
مرآك كالضياء فتان
كالروح يسري في الأبدان
بتعيش في الزمان إنسان
يتمنى الجميع رؤياك
تراكضنا وضحكنا في زمهرير الشتاء، لأن اللحن الشجي ذاك كان معنا قبل يومين فقط، بالصف الثالث ابتدائي، دخل علينا أستاذنا يحيى يونس حاملاً آلة الأكورديون ولحّن لنا نشيداً من كتاب الأناشيد المحفوظات بذات اللحن لإبراهيم عوض…
ويبدو أن اللحن والليل والنشيد والبدر في زماعه ومحاقه والأنجم التائهات في الفضاء وأغصان أشجار المانجو و «الأنجل» المائسات في منزل الديمنقاوي ورائحة شجر «الدبكر» وعبير المكان، قد أنطقا وأطلقا لسان صديقنا الهادئ القابع في محراب صمته… فشدا مع إبراهيم عوض بكلمات النشيد المدرسي، كانت عيناه حيئذٍ تومضان مع بريق النجيمات الساهمات ويلوح وجهه مع نور القمر الذابل، مثل أيقونة سحرية في عمق غائر من أساطير بعيدة..
«ث»
كانت المدينة الصغيرة الوادعة تشرب حينئذٍ من شدوه ومن لحن الأغنية وصوت إبراهيم عوض، وأسوار البيوت الحجرية وصوت مولانا إدريس مؤذن المسجد العتيق يخترق المسافات، عند شرفة المساء والقمر والسكون..
كان زميلنا وصديقنا قد توقف عند سماع الأذان، أذنه مثل بصره تتعلق بالشواهق يشمخ بسمعه نحو المئذنة ونداء الصلاة، وربما أطفأ صاحب المذياع مذياعه، ومتجر الحي الوحيد الذي كنا نقترب منه خفت ضوؤه عندما وضع صاحبه الرتينة أمامه بين رجليه ينفخ فيها بالهواء فيشع النور ورائحة «السبيرتو» وجدت طريقها إلى الأنوف الباردة من برد الشتاء.. ولا ندري لماذا كان صديقنا «إبراهيم كاردي» في تلك الحظة يحكي بصوت فرح طروب قصة طريفة يردد فيها القول الشهير «العصيدة باردة زي نخرة الكلب…»!
لم يكن هناك شيء في تلك الليلة أخرجنا إلى دائرة الدهشة مثل شدو صاحبنا المتطلع للسماء بالنشيد الذي لم يردده داخل الفصل، ولم يُسمعنا فيه صوته…
أمام منزله كانت أمه تقف في انتظاره كأنها كانت تبحث عنه في طرقات الحي وبين أزقته وخيرانه، نادته فانسل من بيننا مسرعًا كلمعة سيف صقيل مثل سيوف عنترة بن شداد في معلقته:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني
وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسمِ
كان كمن أفرج عن ينابيع من جوفه… فرحاً كعصفور، مشعاً كقطعة فسفور، «سأحكي لكم غداً..»
في صباح اليوم التالي.. غاب عن المدرسة…لم نأبه كثيراً فقليل من الأوقات يقضيها معنا لم تجعله أصيلاً في اهتماماتنا رغم أنه زميل وابن حي ورفيق في مراتع الصبا…
لم نشاهده في الحي بعد اليوم الدراسي، ولم يظهر جالساً على حجر في ركن بيتهم يشاهدنا نلعب كرة الشراب أو يراقبنا نتسلق أشجار النيم أو يتضجر من لعبنا بعد المغرب في ما يشبه الصراع والحرب بمقذوفات الرماد المحشو في خِرق من قماش قديم..
في اليوم التالي لم نره في المدرسة، سجله «الألفة» مع الغياب، عندما عدنا لبيوتنا ونحن زمرة من أولاد الحي.. عرفنا أن في اليوم السابق، حمل لوري قديم سكان ذلك البيت والفتى الهادئ الصوت العميق المشرئب النظرات إلى مكان بعيد وهاجروا مرتحلين عن المدينة… إلى أين.. لم نكن نعرف… ولم يتكرم علينا الكبار في الحي بمعلومات كانت لديهم… وغاب ذلك الصبي عن حياتنا منذ تلك اللحظة..
لكنه بلا شك صار له شأن.. كانت حياته معنا لمع بارقة ومر كسحاب عجول أو رياح يطارد بعضها بعضًا..
في فجوات الزمن والعمر… لم يبق إلا اسمه الأول وملامح وجه بريء ونظرات معلقة في السماء وأنف شامخ وصوت دافئ أنشد به ذات ليلة باردة نشيدًا من أناشيد الصف الثالث بلحن لإبراهيم عوض..
مثل هذه الوجوه هل ستقضي الأيام لشتيتها باجتماعِ؟