الحزب الشيوعي السوداني: حينما لم يبق وجه الحزب وجه الناس قد تم الطلاق

الحزب الشيوعي السوداني: حينما لم يبق وجه الحزب وجه الناس قد تم الطلاق

إبراهيم مطر

“وسرعان ما مرت السنوات تباعاً. فبالأمس القريب كنا في سنوات صبا مندفعة، مليئة بالحماس والأمل، وكنا على يقين من أننا سنتمكن يوماً من تغيير العالم. كانت قلوبنا الفتية مليئة بالعزم والإصرار، وكنا حينها نثق بالأغنيات حين تلقي على مسامعنا الوعود. وكنا أيضاً واثقين من غد أفضل لبلادنا، ومن قدرتنا على المساهمة في بناء وطن تترفق شمسه الساطعة بمن يتحركون تحتها، على أمل الوصول لما يشفي غليل توقهم وتطلعهم لذلك الغد المرجو والمأمول”، قال صديقي عضو الحزب الشيوعي السوداني السابق في حسرة، فرددت على مسامعه ضاحكاً قول الشاعر هاشم صديق: “عندما كنت صغيراً وغريراً/ كنت مفتوناً بجيفارا وسولارا وجومو ونزار/ كنت مفتوناً بأبطال اليسار”.

قال صديقي أن انخراطهم في مؤسسات اليسار الطلابية في الجامعات كان هو مدخلهم للمعرفة، ولاختيار جانبهم من الصراع مع “إخوان الشياطين” القتلة، وأضاف: “كان ذلك في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي. توقفت الدراسة في الجامعات بعد شهر واحد من بدايتها، ولم تستأنف إلا بعد مرور تسعة أشهر كانت ثقيلة علينا، ونحن نتطلع لممارسة النشاط السياسي الذي لم يكن مسموحاً به إلا داخل الحرم الجامعي، بعد أن انتزعته إرادة الطلاب من براثن الحركة الإجرامية، ودفع الطلاب الثمن قتلاً واعتقالاً وتعذيباً وفصلاً، لكنهم أبقوا على حرية النشاط السياسي داخل الجامعة كحق ثابت لا يقبل المساومة ولا الابتزاز،فلهم التحية والاحترام”.

وتابع: “لم يكن لنا منهج أو سبيل سوى الجهر بالدعوة لأخذ الحقوق، ومنع التغول الإخوان عليها، وكنا نعتمد في ذلك السلمية سبيلاً، على أمل أن تحدث هذه الطريقة البطيئة بحكم القمع الشديد الذي واجه احزاب اليسار في سنوات الإنقاذ الأولى فرقاً في نظرة المجتمع للنظام وكسر حاجز الخوف بعد ما شاء الشعب أن ينتظر من سنوات، وكنا حينها على قلب رجل واحد، رسلاً للمدنية والسلمية، وما إليها من مفردات رفيعة”. وقال: “كنا نغني مع المغني:  (السلاح ياهو السلاح/ أصلوا ما بهزم قضية/ وعمروا ما جمل قباح/ البنادق لما تفتح نارا في صدر المناضل/ ينفتح في ليل صباح/ الرصاصة بتنهزم لما الصدور الضاوية بالحب تبتسم/ وتغني لليل والجراح).

قال إن أعماقهم كانت تصرخ باللحن والكلمات قبل الألسن والشفاه، وكانوا يظنون أنهم على وفاق في تصوراتهم عما ينبغي أن يكون عليه الحال في وطن متعدد الأعراق والديانات والثقافات”، وتساءل: “ما الذي حدث؟ ما الذي فرق بيننا هكذا شذر مذر؟ هل تغير الحزب الشيوعي السوداني فجأة بعد اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل ليصير نصيراً لقتلة علي فضل؟ هل مرت قيادة الحزب وعلى امتداد عمر الإنقاذ بهذه التحولات شيئاً فشيئاً؟ أم أن الأمر حدث هكذا ضربة لازب؟ هل هو كابوس داهم أحلام سلميتنا الهانئة؟ وذكر حينها شعراً ألقاه مظفر النواب ذات خيبة:(مرة أخرى أمد القلب بالقرب من النهر زقاق/ مرة أخرى أحني نصف أقدام الكوابيس بقلبي/ وأضيء الشمع وحدي/ وأوافيهم على بعد وما عدنا رفاق/ منذ أن لم يبق وجه الحزب وجه الناس قد تم الطلاق). لم نكن نملك غير الجهر بالحق ودفع الثمن صموداً في معتقلات إخوان الشياطين السرية منها والعلنية، تضييقاً في المعاش وسبل كسب العيش، حاربونا بالفقر والمحسوبية، ووصلوا حد التعذيب الجسدي في بيوت الأشباح، وكنا نغني مع المغني:(لا السياط بتهز يقين/ لا سجون العتمة بتودر طريق الكادحين/ لا وردة الدم في قلوبنا يوم بتطفيها الرياح).

وزاد: “كنا نعتمد الصمود ونستعين على صمودنا هذا بالأغنيات. لكن ما جدوى كل ذلك إن كان الحزب اليوم يضع يده في يد المجرم علي كرتي الملطخة بدماء الأبرياء؟ وبدواع عنصرية هي أبعد ما تكون عن الإنسان السوداني الذي يعاف الظلم والظالمين”.

ذكرت لصديقي حديث اليساري عبد الله علي ابراهيم عن إن “على الحرب أن تستمر دون تذرع بحياة المدنيين لأنهم طرف أساسي في المعركة وعليه من الطبيعي أن يموتوا”، أي والله هكذا قال “عبدالل”ه من منفاه الآمن والبعيد، وهو يستبطن صورة ذهنية بعينها لهؤلاء المدنيين الذين لا ضير في موتهم، فلا يمكن أن يكون قد قصد بهذا الموت الجماعي غير المهم، أهله وعشيرته الأقربين. وذكرت له إن الشيوعيين الذين يدعمون كتائب البراء بن مالك اليوم علانية، ظلوا ولسنوات يدعون أنهم ضد العسكرة والبندقية وسفك الدماء. سأل أحد اليساريين “المغتربين” على منصة فيسبوك: “ترى أين الضباط والجنود الذين ينوبون عن الجيش في القيام بمهامه غير العسكرية المتعلقة بخدمة المواطنين؟” ليرد عليه شيوعي مثلي الجنس: “موجودين وقاعدين”!. كانت محاولة خجولة لإبقاء الناس في وهم وجود ما يمكن أن يطلق عليه اسم “الجيش السوداني”، حتى بعد ان تفرق إلى مليشيات قبلية وحزبية وداعشية تحمل كلها قطعة قماش كتب عليها أنها تتبع للقوات المسلحة، فضلاً عن مستنفرين بطاقة تعريفهم هي الأسلحة التي يحملونها ولا غير، وهم على استعداد لإطلاق النار متى ما رأوا ذلك، ودون تبعات.

قال صديقي: (قلنا ليهم البنادق لما تسكت/ ما بترتاح في سكونا/ ليلا مليان بالهواجس/ نوما أوهاما وظنونا/ كل ما أصواتنا تعلى تصحى تتحسس دقونا/ ليلهم الخوف والكوابيس والخيانة ونحن قدامنا الصباح).

وأضاف: “كنا نردد خلف الجوقة، وكنا نظن أن عدونا واحد قبل أن نستيقظ ذات يوم من أيام حرب أبريل لنجد أن أرباب سلميتنا في سنوات سابقات هم أكبر داعمي المجهود الحربي الإعلامي لإخوان الشياطين، أولئك الملتحين القتلة”.

ولم أنس أن أذكر صديقي بواحدة من عجائب حرب أبريل التي لا تحصى ولا تعد، وهي تداول عدد من الشيوعيين في صفحاتهم على مواقع التواصل وفي احتفاء كبير،  فيديو لأحد دواعش مليشيا البراء بن مالك وهو ينشد قصيدة محجوب شريف الشهيرة (ميري كلمينا/ عشة حدثينا/ أي سونكي أحسن يبقى مسطرينة)، وهو يرتدي عصابة “داعش” الحمراء، تعلن عن سقوط الحزب الشيوعي السوداني في لون العصابة القاني، وتورطه في سفك دماء أهل السودان بالتواطوء.

قال نزار: “سأقول في التحقيق إن اللص أصبح يرتدي ثوب المقاتل/ وأقول في التحقيق إن القائد الموهوب أصبح كالمقاول / وأقول إن حكاية الإشعاع ، أسخف نكتةٍ قيلت فنحن قبيلةٌ بين القبائل”. ألا لعنة الله على إخوان الشياطين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى