علي كرتي، أمير الظلام في جمهورية الدم: حين يصير الانفصال مشروعًا للحاكمية

علي كرتي، أمير الظلام في جمهورية الدم: حين يصير الانفصال مشروعًا للحاكمية

 بروفيسور خالد كودي

‏ضد الذاكرة القصيرة: تفكيك خطاب علي كرتي حول انفصال دارفور ومسؤولية الحركة الإسلامية عن مشروع الإبادة في السودان:

‏حين يُطلّ علي كرتي – أحد كبار مهندسي النظام الإسلامي السوداني السابق– ليقترح “انفصال دارفور كمخرج سلمي”، فإنه لا يقدم حلاً بقدر ما يكشف جوهر الخطاب الذي حكم السودان لثلاثة عقود: خطاب عنصري، فاشي، ينظر إلى “الآخر” السوداني كعبء، لا كشريك. إنه منطق القرن السادس عشر، وقد تلبّس لغة الدولة الحديثة. ومن واجبنا – قانونيًا، أخلاقيًا، وتاريخيًا – أن نرد على هذه الدعوة، لا بالاستنكار الخطابي، بل بالتفكيك الجذري لمنطقها، ومساءلة من أطلقها.

‏أولًا: حين يُقترح الانفصال كوسيلة للهرب من العدالة:

‏من يُشعل الحروب لا يملك حق اقتراح الانفصال… وكرتي لا يقترح “تقرير مصير”، بل يكرّس “تقرير عنصرية”

‏في مناخ أخلاقي مشبع بالإنكار، خرج علينا علي كرتي، أحد أركان المشروع الإسلامي الذي حكم السودان لثلاثة عقود بالإقصاء والقهر، ليقترح ما سمّاه “انفصال دارفور كمخرج عقلاني”. لا يقدّم كرتي هنا “حلًا سياسيًا”، بل يكشف بمنتهى الوضوح عن ذهنية استعمار داخلي عميق: لا يرى في الآخر السوداني شريكًا في الوطن، بل عبئًا يستحق الفصل أو الإبعاد حين يطالب بالمساواة.

‏إنّ خطاب كرتي لا ينفصل عن ما صرّح به لاحقًا القيادي الإعلامي في الحركة الإسلامية، الطاهر حسن التوم، الذي قال بصراحة:

‏”إذا كان ثمن إيقاف هذه الدماء أن تصبح دارفور دولة، فلتكن دولة. لماذا نرفض مثل هذه الدعوة الموضوعية؟”

‏هذه ليست دعوة للسلام، بل ترجمة دقيقة لنفس البنية التي أنتجت مشروع “التمكين” و”الاستعلاء العرقي” و”الحرب المقدسة”. إنها محاولة لنقل “ثمن الجريمة” إلى الضحية، لا إلى الجاني؛ إلى من تم تدميره، لا من دمّر. وبدل أن يعتذر النظام الإسلاموي عن ثلاثين عامًا من الإبادة والاغتصاب والنزوح، ها هو يعرض على دارفور… خريطة خروج!

‏في علم الاجتماع السياسي، تُعرف هذه النزعة بـ”منطق الإنكار المصحوب بالاستبعاد”، حيث لا تُعترف الجريمة، بل يُقترح استئصال الضحية كحلّ. وكما كتب

‏:Zygmunt Bauman

‏.”الاستبعاد هو أبسط صيغة للسيطرة، حين تعجز عن التعايش مع المختلف”

‏هنا لا يتحدث كرتي ولا الطاهر التوم عن “تقرير المصير” بوصفه حقًا ديمقراطيًا، كما نصّت عليه المادة (1) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. بل يعيدان صياغته بوصفه وسيلة “لطرد سياسي ناعم” يخدم غرضًا واحدًا: محو سجلّ الدولة المركزية من جريمة دارفور، دون مساءلة، دون محاكمات، دون ذاكرة

‏وكما قال المفكر

‏:James Baldwin

‏.”الامتياز يفضّل تدمير كل شيء على أن يرى نفسه متساويًا مع من احتقره يومًا”

‏هذا ما يفعله كرتي تحديدًا: بدل أن يقف أمام محكمة عدل تاريخية، يقدّم نفسه كصانع “حلول”، ويقترح تقطيع البلاد مرةً أخرى، لا لشيء سوى أن الوحدة أصبحت مرآة للجرم الذي لا يودّ رؤيته

‏هذا ليس “تقرير مصير”. إنه، بتعبير

‏:W.E.B. Du Bois

‏.”نفيٌ للحق الديمقراطي حين يفشل السادة في قمع العبيد، فيتّهمونهم بأنهم خطر على الكل”

‏وإن خطاب كرتي، الذي يوازي ضمنيًا بين وجود المهمّشين وتدمير السودان، يتبنى عقلية التفوق المحاصر، وهي كما يشرحها علم النفس السياسي، تلك الحالة التي يشعر فيها “المسيطر” أن مجرد وجود المختلف هو تهديد لهويته وامتيازاته، فيلجأ إلى خيارين: القمع أو الطرد.

‏وفي خلفية هذه التصريحات تقف مشاريع الفاشية المقنّعة: نفس الفاشية التي استخدمت الدين لتبرير الجهاد ضد الجنوب، والتي سمّت العدالة في دارفور تمردًا، والتي رأت في العلمانية، وحقوق الأقليات، وحق تقرير المصير… مؤامرة غربية لا تُناقش

‏Pierre Bourdieu

‏: يحلّل هذا النوع من الهيمنة الثقافية بقوله

‏.”الطبقات المسيطرة لا تكتفي بفرض سلطتها، بل تفرض تعريفها للحقيقة، ولمن يُحسب ضمن الجماعة”

‏بهذا المنطق، لا مكان في مشروع الإسلاميين لدارفور، أو النيل الأزرق، أو الجبال، إلا بصيغة التابع، أو الصامت، أو الفصل. وهنا تتقاطع تصريحات كرتي والطاهر التوم مع أسوأ نماذج الفصل الاثني والسياسي التي عرفها التاريخ الحديث

‏والأرقام لا تكذب:

‏- في جنوب السودان: أكثر من مليوني قتيل، و4 ملايين لاجئ ونازح؛

‏- في دارفور: 300 ألف قتيل، ومليونا نازح (بحسب تقارير الأمم المتحدة)؛

‏- في جبال النوبة والفونج الجديدة: مئات الالاف من القتلى و ملايين النازحين، وتدمير منهجي للقرى؛ كلها بقرارات كانت تصدر من غرف السلطة التي تواطأ فيها كرتي وسوق لها أمثال الطاهر حسن التوم.

‏ومع ذلك، لا نسمع اليوم اعتذارًا… بل نسمع عرضًا: “اخرجوا، كي نرتاح”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى