ألا تبا، لوجهي الغريب؟!

ألا تبا، لوجهي الغريب؟!

الجميل الفاضل

حين تتقلب الأمزجة، تصبح غريبة هي الأطوار.

فمن عمق طور من أشد أطواري غرابة، أحكي لكم اليوم: أننا كنا قد التقينا فجأة، أنا ووجهي الغريب، وجها لوجه التقينا، على حاجز في مكان قصي، ليس به جنود أو حتى أشباه جنود، هو حاجز ربما نبت على سطح مرآة أتت من خارج هذا الزمان لتتيح لنا، “أنا وهو”، فرصة هذا اللقاء.

فإستجمعت قواي كلها على لساني، لأسأل وجهي، رد الله غربته، قبل أن يسألني عنه جنود متطفلون قرب مقبرة.

قلت له: كيف صرت وجهاً غريباً يا أخ الغربة؟، تدل على، وعلى جثتي، لتحملني إلى حتفي، ياأيها الوجه الخائن، الغريب؟.

صحت بأعلى صوتي بوجهه، الذي هو بالطبع وجهي: أغرب عني أيها الوجه الغريب، فأنا لا أطيق في غربتي هذه، غرباء أو جبناء مثلي، فروا من جحيم الحرب.

عموماً، فمع كل تبدل في مثل هذه الأحوال، التي شطرتني لنصفين، هما نصفان يتحاوران الآن “بيني وبيني” لتنشأ علاقات طردية، وأخرى عكسية، تسبح بي كلها خارج الطقس كما يحلو لها، حرة، أبية، ومستقلة، ترفع راياتها على هامتي سارية، على نمط ما يفعل رجالات البرتوكول والمراسم لدى سائر الشعوب والأمم.

لقد أتلفت هذه الحرب أعصابنا، وعكرت أمزجتنا يا أصدقاء، بمثلما أفسدت على بعض الناس من طبقة الملاك منا، متعتهم بالأشياء كلها، إذ لا بيوتا دافئة في زمهرير الشتاء، أو باردة عند هجير الصيف، يلوذون بها فتأويهم كعادتها بين أضلاعها في حنو، وإذ لا فارهات تربضن على هذه الفناءات الآن، ولا أسواق للسابلة أمثالي، أو “سوبر ماركتات”، تعج بلبن الطير، وبكل ما لذ وطاب، تلبي لمجتمعات المخمليين، ما تشتهي أنفسهم.

حيث لا مراتع أنس تروح عن قلوب الكبار منهم، ولا ملاعب لهو تداعب عقول صغارهم.

ولا نوافير تنشر البهجة أمام ناظريهم مع تراقص مياهها بألوان قوس قزح.

لقد تلاشى الحب والفرح هنا كفقاعة، فتنامى البغض والكره، بين الناس أشجارا.

وقد شرد الضحك من الأعماق، لتموت أو قل لتنتحر، كل الكهارب في الشوارع.

لتغرق في برهة صغيرة، كل هذه الشوارع الكبيرة، كلها في الظلام.

ثم لتهرب الكهرباء من أسلاكها تحت جنح هذا الظلام نفسه، قبل أن تجف المياه في أنابيبها، رغم أن النيل كان حاضراً كعادته، فالنيل على أية حال، لا يلام.

لا يلام، من أن لا مياه في صنابير المياه، وبالطبع لا يلام أيضا، في أن لا كهرباء تحملها الآن أسلاك الكهرباء.

فالأسلاك ذاتها قد تقطعت بها سبل الحياة، فتمردت على أعمدة ضغطها العالي والمنخفض، قبل أن تنصهر من تلقاء نفسها إلى نحاس، ذاب هو في ذمم واسعة، تحول النحاس بين تضاعيف سعاتها المذهلة، إلى فرص ذهبية نادرة، وإلى عملات غير معدنية أخرى، إبتلعتها قطط سمان لا زالت ترابط على البحر، في انتظار رياح تشتهيها سفنهم، لكي تمخر عباب بحر هذه الحرب، الذي هو بحر يظن البعض أنه بحر بلا ساحل، لحرب لا يريد من أوقدوا نارها أن تنتطفيء بين أيديهم دون عائد أو كسب مقدر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى