دار مساليت: حين يتكلم الدم وتخرس الدولة

دار مساليت: حين يتكلم الدم وتخرس الدولة

الوليد آدم مادبو

العدالة الحقيقية ليست هي القانون وحده، بل هي ضمير البشرية مكتوب على الورق.”

            مارتن لوثر كينغ

في بلادٍ اعتادت أن تكتب تاريخها بالمداد والدم، تبرز أحداث الجنينة، لا كجريمة معزولة، بل كذروة جبل جليدي من التواطؤ الرسمي، والخذلان الأخلاقي، والتشظي الاجتماعي. ما رواه الأستاذ بشرى علي، على لسان شاهد عيان لا شاهد عاطفة، ليس مجرد تقرير عن مذبحة، بل كشفٌ عن البنية العميقة لآلة الدولة المركزية حين تقرر تحويل المدن إلى حقول اصطفاف قبلي.

ففي تلك الأيام المظلمة، لم تكن السماء تمطر رصاصاً فقط، بل سقط معها آخر قناع تضعه الدولة حين تحوّلت إلى صانع فتنة، لا وسيط سلم. قطعُ الاتصالات، سحبُ الدبابات، تسليحُ طرف ثم تركه لمصيره، ومن ثم التلذذ بدمه، كلها ليست قرارات عشوائية، بل “هندسة إبادة”، كما يسميها بشرى علي، وقد أتقنتها شعبة الاستخبارات العسكرية حتى صارت الجنينة جبهة مقصودة لإشعال حرب داخل الهامش، وفك الحصار من الخرطوم بسحب الدعم السريع إلى دارفور. من هنا نتفهم رفض حكومة بورتسودان السماح للجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة دخول الجنينة حينها والتحقيق في الأحداث بصورة شفافة ومحايدة.

لكن تلك الجريمة، رغم فداحتها، ليست سوى نتاج نهائي لصراع أكبر، أعمق، وأخطر: صراع دار مساليت بوصفه مسرحاً مفتوحاً لسياسات “فرّق تسد” التي طبّقها المركز عبر عقود. فبينما تدفقت أرتال العنف من معسكرات الجيش والدعم السريع، تدفقت أرتال التفرقة من مقرات الأحزاب ومكاتب الجنرالات، وكلها تتغذى من وهم الهيمنة على جغرافيا لم تكن يومًا إلا جرحاً في خاصرة الدولة، ورمزاً لفشلها البنيوي.

لقد تحوّلت هوية المساليت من رواية تاريخية عن مملكة عريقة قاومت المستعمر، إلى “ورقة ضغط” في يد النخب المركزية، تُلوّح بها حيناً في وجه الدعم السريع، وتستخدمها أحياناً لتفجير صراعات داخل الهامش، تارة باسم الثأر، وتارة أخرى باسم التوازن.

وما بين المشهد التفصيلي الذي يسرده شاهد العيان، والمشهد البنيوي الذي نقرأه من خلال واقع دار مساليت، يتضح لنا أن الحل لن يأتي من فوق، لا من تلة القصر، ولا من قيادة الفرقة، بل من تحت: من الإدارات الأهلية، ومن ضمير المجتمعات المحلية التي ما زالت تحتفظ ببعض ماء الحياة وسط هذا المستنقع الدموي.

إن ما تحتاجه دارفور اليوم ليس صلحاً عشائرياً فقط، بل مراجعة شاملة للمنظومة السياسية التي أفرزت هذا الكم من العنف، وإعادة تعريف مركز الدولة بحيث لا يكون على حساب الأطراف. فالعروبة لا يجب أن تكون مقابل الأفريكانية، ولا الإسلام الرسمي مقابل الإسلام الشعبي، بل الدولة الحقة مقابل الدولة الزائفة التي هندست الحرب، ثم وقفت على تلّ الرماد تذرف دموع التماسيح.

دار مساليت لن تُشفى بتقارير حقوقية، ولا بلجان تقصي الحقائق التي لا تُمنح التأشيرات، بل بمسار طويل من العدالة، والمكاشفة، والمحاسبة، ثم تأسيس مشروع وطني جديد، لا يُبنى على توازنات السلاح، بل على توازنات الأخلاق والشرعية الشعبية.

إن دارفور لا تحتاج انفصالاً جغرافيًا، بل انفصالاً أخلاقيًا عن ماضٍ من التواطؤ والخذلان؛ لا تحتاج جمهورية جديدة، بل وعيًا جديدًا يؤسس لدولة لا تحتكم للدم، بل للعدل.

نعم، يتحمّل الدعم السريع مسؤولية قانونية وأخلاقية عن كثير من هذه الانتهاكات. لكنّ العدالة لا تكون عدالة إذا جاءت مجتزأة أو موجهة بعين واحدة. فمن غير المقبول أن تحاكم قيادة الدعم السريع على جرائم الجنينة، بينما يُحصّن البشير وزمرته من الملاحقة، رغم كونهم مطلوبي عدالة دولية. ولن تكتمل أي عدالة تُدار بواسطة نائب عام، يفتقر إلى الكفاءة الأخلاقية والفكرية، لا يملك الشجاعة لتسليم قادة النظام البائد للمحاكمات التي طال انتظارها.

فالصمت خيانة، والحياد تواطؤ. ولن تُبنى دولة على دماء الأبرياء ما لم نكسر دائرة الإفلات من العقاب، ونحاكم القتلة جميعًا، لا على هوى السياسة، بل باسم العدالة. فربما ينطق هذا الدم لا بالثأر، بل بنداء أخير: أن اصنعوا من المأساة مخرجًا، ومن الخراب بداية.

ولن يكون ذلك ممكنًا ما لم تخرج النخب من عباءة المركز، وتكفّ عن هندسة الخراب لحساب معادلات ضيقة، وتلتحق بجمهور الناجين والنازحين، أولئك الذين لم تعد لديهم سوى ذاكرة الألم وزاد الحكاية. عندها فقط، يمكن أن تتحول دار مساليت من رمز للانهيار، إلى بداية لوعيٍ جديد يُعيد كتابة التاريخ بلغة الإنصاف والمصالحة، لا بلغة النفي والانتقام.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى