استعادة الوعي ليست رحلة نحو الخارج بل غوص عميق في الداخل
د. الهادي عبد الله أبوضفائر
هل جئنا إلى هذا الكون جهلاء، كأرواحٍ تائهة في الفضاء، تنتظر أن تخط التجربة على صفحتها الأولى ملامح الفهم وبدايات الإدراك؟ أم أن فينا، منذ اللحظة الأولى، نداءً خفيا يسري في أعماقنا توقاً فطرياً لا يهدأ، يحدونا إلى النور، ويحثّنا على الانعتاق من غشاوة الغفلة؟ أم أننا وُلدنا في كنف الظلمة، أم أن الظلام لم يكن أصلاً، بل حجاباً فُرض علينا، وتجهيلاً صيغ بسبق الإصرار والترصد، ليقصينا عن أنفسنا، عن بصيرتنا، عن الحقيقة التي تسكن فينا منذ البدء؟ .
وما خُلقنا من طين الحياة إلا لنكون شهوداً على الحقيقة لا بأبصارٍ تأسرها حدود المشهود، بل ببصائر تنفذ إلى الغيب، لنُبصر، لا لنسمع الضجيج، بل لنُصغي إلى الصوت الخافت الذي يتردّد في عمق الصمت، فينبت في أرواحنا يقينٌ لا تصوغه الحواس، بل تولده الفطرة كما تولد الزهرة في الظل، تتفتّح اشتياقًا لشمس لم ترها، لكنها تستدل على وجودها بنسمةٍ عابرة تمرُّ على أوراقها، فتوقظ فيها ذاكرة الضوء. هكذا تشتاق أرواحنا إلى نورٍ لم تدركه العيون، لكنها تعرفه كما يعرف القلب نبضه، ام أن النور الذي نادت به أرواحنا واهتدت إليه فطرتنا، قد أُخمد عمداً؟ أطفئت مصابيحه بسبق إصرار، وسُرقت دروبه تحت جنح الخوف، لتُلقى في ظلمةٍ كثيفة ومحكمة، صُنع على مهل لخدمة قلةٍ أرادت أن تهيمن على الوعي والزمان؟ فاستحال الليل سيّد المشهد، جاثماً على صدر الفجر، لا يعترف بولادته، ولا يسمح له أن يشقّ صمت الظلمة بنوره، حتى بات الناس يسيرون في عتمةٍ اعتادوها، وارتضوا بها، ونظروا إلى النور وكأنه أسطورة، لا حقّاً كان يُنتظر أن يُولد من رحم الغياب.
لقد سُقينا من نبع الجهل لا لنرتوي، بل لنزداد ظمأً، فلا تنبت في أرواحنا بذور الوعي، ولا تتفتح في عقولنا أزهار الإدراك. لم يكن الظلام الذي لفّ أرواحنا محض صدفة، بل كان فعلاً مقصوداً، بسبق الإصرار، حتى غدا الفكر سجيناً، وصارت الحرية طيفاً مقيّد اليدين، لا تُرى إلا من خلف أسوار القمع، تلوّح للقلوب المتيقظة من بعيد، كأنها ذكرى من زمنٍ لم يُكتب له أن يكتمل. لم يكن التجهيل هفوة عابرة، بل كان صناعةً محكمة، حُبكت بخيوطٍ من خوفٍ مُزمن، خُطط لها بدهاء لتقمع يقظة العقول قبل أن تولد، ولتُغتال الحقيقة في وضح النهار، دون مواربة ولا حياء. ذلك لأن الحقيقة، في عُرف الظالم، خطرٌ لا يُحتمل، فهي تهدّد عروشاً بُنيت لا على العدالة، بل على اغتصاب حقّ الغير، وعلى تراكم الأكاذيب التي أُطعم بها العامة حتى صدقوها. لقد أُريد للحياة أن تكون مسرحاً يُؤدَّى فيه دور الحرية، بينما يُدار النص من خلف ستار الخوف، وتُكتم الأصوات التي تحاول أن تهمس باسمها.
نحن اليوم، في زمنٍ شُيّدت أركانه على أنقاض الوعي، وسُقفت سماؤه برماد الجهل، ندفع ثمن يقظتنا كما لو كانت خطيئة، ونحاكم على بصيرتنا كما لو كنا اقترفنا إثماً. من يرفع رأسه فوق سطح الظلمات، متشبثاً بشعاع الإدراك، يُدان، ويُحاكم كمارق خان عهد الظلام. ويزهق دمه، لأنه تجرأ على مغادرة مظلّة الجهل، وسعى إلى بصيرة تُبدد دياجير الظلام. فصار الإبصار جريمة، والتفكّر خيانة، والتأمل خروجاً على نظامٍ لا يُريد من العقول إلا أن تصمت. تُكسر الأقلام لأنها تجرأت أن تقول ما ينبغي أن يظلّ مطموراً في صمتٍ مدبَّر. يُخنق النور لأنه يكشف المستور، ويفضح ما اعتادت الظلال أن تخفيه. لم تُرفع رايات الجهل لأن الحكمة غابت، بل لأنها حضرت بقوة تُربك العروش، ولأن المعرفة إذا أضاءت، كسرت طغيان الوهم. فالجهل لا يزدهر في ضوء الحقيقة، بل في أرضٍ عقيمة، لا تنبت فيها أسئلة، ولا يعرف فيها النور طريقه، حيث يسهل دفن الوعي وتمجيد العتمة كأنها قدرٌ لا يُرد.
وهكذا، صار الوعي تهمة، والمعرفة سلاحاً يُخشى من حمله، وكأن الإدراك جريمة لا تُغتفر في زمنٍ لا يطلب من الإنسان سوى أن يُنصت، لا أن يفكّر، أن يتبع، لا أن يسأل، لأن الوعي جريمة يُعاقَب عليها صاحبها، والفكر تهمة تُلصق بكل من تسوّل له نفسه أن يرى أبعد من الجدار. من يجرؤ على نزع أغلال العتمة عن عنقه، يُصلب لا في الخفاء، بل في وضح النهار، على أعين الجموع، لا ليندثر، بل ليغدو مشهداً رادعاً، وصورةً مُعلّقة على جدار الخوف، تهمس لكل من يفكّر في أن يُبصر: “ها هنا ثمن الرؤية… فاختر الصمت تنجو.
الخروج من دياجير الظلام لا يكون بهروبٍ خاطف، بل بصحوة متأنية، تنبع من الداخل، ويقظةٍ تهزّ الذات أولاً، قبل أن تمتدّ إلى العالم من حولها. فالوعي لا يُمنح، ولا يُستعار، بل يُولد في القلب حين يرفض أن يعيد إنتاج الصمت، ويصون في أعماقه جمرة الأسئلة، حتى وإن حاصرتها رياح القمع. لا خلاص جماعي دون نضال فردي، يعلو صوت العقل فوق همسات الخوف، وتنتصر الكلمة على جدار الصمت، ولو بصوتٍ خافت. الخروج يبدأ حين نربّي في أعماقنا صلابة لا تلين أمام جحيم الطغيان، وحين نعلّم أبناءنا أن يسيروا في دروب الحق، وإن كانت موحلةً، وعرةً، موحشة. وأن نكتب، ونفكر، ونتأمل، لا لأننا في مأمن، بل لأننا نعرف أن الكتابة نجاة، وأن الفكر، حين يُقمع، لا يموت؛ بل ينكمش في صمت، ويتوارى خلف أستار الظلام، لكنه لا ينسى، ولا ينطفئ. إنه ينتظر لحظة التجلّي، لأنه يدرك أن لا شيء يبقى على حاله، وأن كل بذرة تُدفن في العتمة، تنبت إن صبرت، وتشقّ الأرض نحو الضوء. وكذلك الوعي، قد ينام أحياناً، لكنه لا يفنى.وإن الفجر، لا يحتاج إلى إذنٍ من ليلٍ مغرور كي يولد، إنه وعد الوجود، لا يُخلفه الزمن، ولا يمنعه الطغيان.