لقد مثّلوا بنا في لاهاي!

لقد مثّلوا بنا في لاهاي!

منعم سليمان

شاهدتُ قبل فترة فيلمًا وثائقيًا عن المحاكم في أمريكا، وقد استوقفتني إفادةُ أحد المحامين الكبار، عندما سُئل عن سرّ كسبه الدائم للقضايا التي يترافع فيها، فأجاب قائلًا: “السرّ يكمن في شخصية المترافع، وطريقة عرضه للقضية، وجزالة تعبيره؛ هذه هي أدوات كسب القضية، وما عداها مجرّد إجراءات.”

تابعتُ ظهر أمس الخميس جلسة محكمة العدل الدولية في لاهاي، المخصصة للنظر في القضية التي رفعتها سلطة الأمر الواقع في السودان ضد دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة، وقد مثّل السلطة التي تتخذ من مدينة بورتسودان عاصمةً لها، معاوية عثمان، المكلَّف بمنصب وزير العدل.

وقد هالني الرجل عند إطلالته؛ فقد بدا ذائغ البصر، مهمل المظهر، نحيفَ الجوهر، ولم يكد يفتح فمه مُحدّثًا حتى انطلقت التأتأة، وتتابعت التلكؤات، وتوالى التلعثم. فقفزت إلى ذهني وصفةُ ذلك المحامي الأمريكي، ووجدتني أستعير قول الشاعر الجهبذ جرير، حين سخر من نديده الفرزدق عند تجرّئه وتهديده بمنازلة أحدهم، والتي أصبحت قولًا مأثورًا، وأقول مقتبسًا على المعنى: فأبشري بطولِ سلامةٍ يا إمارات!

كانت الكارثة الأولى حين شرع وزير السلطة في مخاطبة المحكمة، فنطق بلغة غير مفهومة، إذ كان يتهجّى كلماته كتلميذ غِرّ في عامه الدراسي الأول. تخرج كل مفردة من فمه وحيدة، معزولة عن الأخرى، فلم يستطع التحدث بجملة مفيدة واحدة، مكوّنة من فعل وفاعل ومفعول به.

وأصدقكم القول إن شعورًا غريبًا انتابني حينها وأثقل قلبي غصّة؛ كان مزيجًا من القهر والأسى والتعاطف. فلم يسبق لي أن رأيت قبل هذه المرة إنسانًا يتعذّب وهو يحاول القراءة. وقد بلغت المأساة ذروتها حين حاول نطق كلمة (Destruction)، وهي مفردة إنجليزية بسيطة تعني “تدمير” في العربية، كما هو معلوم، لا تحتاج إلى تعلُّم أو تعليم، يتفوّه بها حتى الأطفال في سنّ ما قبل المدرسة من شاشات الرسوم المتحركة. فإذا به يزبد ويرغي أمامها، كأنها شوكة في حلقه، تارة يقول (Distraction) بمعنى “إلهاء”، وأخرى يقول (District) التي تعني “منطقة” أو “حي”. يتلعثم بكل هذا الهذيان، فيما الكاميرا تتنقل بين وجوه وفده الشاحبة، فإذا هي في وادٍ آخر، جامدة لا تبالي بالفضيحة التي يقدّمها وزيرهم أمام أعين ومسامع العالم، في مشهد يختصر انحدار الإسلاميين وعسكرهم، ويفضح فسادهم وفشلهم في كل الميادين، وعجزهم البنيوي المزمن عن تقديم فردٍ واحد من بين صفوفهم يحمل الحد الأدنى من ملامح الرقيّ والتحضّر، وحساسية إنسان هذا العصر.

نقول هذا دون تجنٍّ أو إساءة، ودون أي مقارنة ظالمة حتمًا ستتضرر منها المتحدثة الإماراتية، التي ظهرت كما ينبغي لأي ممثل/ة لوطنه أن يظهر: في إشراقتها، وهيبة حضورها، وانسياب وسلاسة خطابها المختصر، البهيّ.

لن أتحدث عن القضية التي تُثار بشأنها الشكوى، ليس فقط لأن فشلها محسوم ومحتوم، بل لأنها أيضًا محتشدة بالسخرية والكوميديا السوداء. فعندما يتحدث مجرمون مطاردون دوليًا أمام العدالة الدولية بتهمة الإبادة الجماعية ضد شعبهم، وينصّبون أنفسهم متحدثين باسم ضحايا الإبادة، بل ويتهمون بها آخرين بعيدين كل البعد عن مثل هذه الجرائم، فإننا نكون أمام مهزلة وكوميديا سياسية هزلية سخيفة، لا تُدخل حتى ضحكًا مجانيًا على وجوه السودانيين الحزينة، المشرّدين في أصقاع الأرض بسبب جرائم الإخوان المسلمين، وعسكرهم، وميليشياتهم.

إن هذه المسرحيات الثقيلة على قلوب السودانيين، والتي تُضيف إليهم ثقلًا فوق ثقل الحرب وتداعياتها، هي عروض عبثية غير مجدية، وحقيرة في مضمونها ومآلاتها. فعوضًا عن مواصلة هذا اللعب الطفولي، فإن على قيادة (الإخوان) المتحكمة بسلطة الأمر الواقع في بورتسودان أن يوقفوا الحرب، ويجدوا حلولًا سلمية للنار التي أشعلوها ثم فرّوا، تاركين المواطن وحيدًا بلا حماية، ودون مأوى أو غذاء أو دواء، فتكفّلت بذلك دول شقيقة وصديقة، في مقدّمتها دولة الإمارات العربية المتحدة، التي ربما كانت الدولة الوحيدة في هذا العالم التي قدّمت الإغاثة والإقامة للسودانيين بلا مقابل.

ومثل هذه الشكاوى الكيدية التافهة لا تُقدّم ولا تؤخّر، ولا أحد يستطيع – دعك عن هذا الوزير الجهول – أن يُثبت التهمة على دولة الإمارات العربية المتحدة، فالجميع يعلم متى وأين حصلت قوات الدعم السريع على تسليحها وتدريبها المتقدم، وكان ذلك في عهد الإخوان المسلمين أنفسهم، حين فتح لهم نظامهم البغيض الأبواب، لحماية سلطتهم من السقوط. وحين هبّ الشعب، وقررت قيادة الدعم السريع الانحياز إلى التغيير، قرروا محاربتها، ومحاربة الشعب الذي أنجز ذلك التغيير. فأين موقع الإمارات في هذه المعادلة؟ وما دخلها في هذه الأكاذيب؟

أوقفوا الحرب، وأوقفوا هذا العبث، وهذه المرمطة لسمعة السودان والسودانيين في المحافل الدولية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى