عبد الله علي إبراهيم.. نهرِيٌّ عظِيم!

عبد الله علي إبراهيم.. نهرِيٌّ عظِيم!

علي أحمد

ليس ثمة مثقف سوداني منحاز وغارق تمامًا في عصبية الشمال العربي (العباسي)، بالطريقة التي تدعو إليها ثُلَّةُ النهر والبحر (النهر يتقدم البحر – لأول مرة)، مثل عبد الله علي إبراهيم، أستاذ التاريخ السابق بجامعة ميسوري في أمريكا. ومن هذه الزاوية الضيقة، التي تنحصر من شمال الخرطوم إلى منحنى النيل، ينطلق خياله وتفكيره وتصوره للسودان ثقافةً واقتصادًا وديموغرافيا. لكن أكثر الناس لا ينتبهون إلى أن (عبد الله) عنصريٌّ متخندق في تلك الجغرافيا المُستعربة، لا فرق بينه وبين بقية القوميين العروبيين العنصريين الانفصاليين. وقد استضافوه كثيرًا، ولبى دعواتهم، وهم يستعرضون كتبه في ندواتهم ليل نهار، ولا أحد ينتبه، أو ينتبهون لكنهم لا يتحدثون خشية (سطوة) الرجل، الذي رسَّخ لدى سواد الناس الأعظم أنه ماركسيٌّ شيوعي، لا يمكن أن ينحرف إلى قومي شمالي مستعرب.

في بداية الحرب، أخذته الحمية القومية والعزة (النهرية)، فاصطف مع جماعة (بل بس)، وصار مثقف البلابسة ومنظِّرهم، وأطلق عبارته الشهيرة مبررًا بَلَبَسته، قائلاً: “ما يجبرنا على المُر هو الأمرُّ منه”. لكن الناس لم ينتبهوا أيضًا، إلا قلة منهم، إلى أنه كرَّ عليهم أمس في ذات القناة (الجزيرة) ونفس مقدم البرنامج (أحمد طه)، وظهر في ثياب (الانصرافي)، فبُهِتوا وذُهِلوا ودقوا يدًا بيد.

موقف عبد الله علي إبراهيم قديم جدًا ومبدئي، وليس وليد الحرب وغُبنها ولحظتها وانتقاميتها وحميتها (الجاهلية). فالرجل يريد أن تستمر الحرب إلى أن يُباد من يطلق عليهم “عرب الشتات” – قالها هكذا، لدرجة أن مقدم البرنامج المصري فَغَرَ فاه – هكذا وصفهم، ويريد إبادتهم إبادة تامة. كما كان يريد في السابق استمرار الحرب حتى إبادة الجنوبيين (الأوباش) في جنوب السودان إبادة كاملة، وكذلك في دارفور أيام حرب الحركات، وفي جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق. ولا أبالغ في ذلك، فلديَّ من الأدلة الموثقة من كتاباته وندواته ومداخلاته ما يثبت ذلك.

الفرق أنه فقد بالأمس قدرته على السيطرة على لسانه، فانفلت بطريقة المأفون “ياسر العطا”، ولعلع بكلام بدا قاسيًا بالنسبة لمن لم ينتبهوا إلى مواقفه الثابتة منذ عقود، بل منذ كتابه الشهير “بخت الرضا – التعليم والاستعمار”. لذلك، فإن قوله أمس: “إن هذه الحرب ينبغي أن تستمر مهما طال بها الزمن، لتحقيق أهدافها بسيطرة الجيش على كافة الأراضي السودانية، حتى ولو استمرت لعقود طويلة”، لم يكن غريبًا عليه بالنسبة لي. ولم يكن يحتاج إلى الرد المفحم من مقدم البرنامج أحمد طه، حين قال له:

“أخشى أنك تغفل زاوية مهمة… زاوية 14 مليون سوداني شُرِّدوا… زاوية آلاف السودانيين الذين قُتلوا… زاوية الذين هُجِّروا خارج السودان… زاوية الجوعى… هل التكلفة والثمن في حق المدنيين تحديدًا مقبول لاستمرار الحرب لسنوات؟ هل هذا منطقي؟”

فكان رد “المثقف” أستاذ التاريخ:

“إن هذه الحرب ليست بين الجنرالين، ولكنها حرب جاءت من ثورة للتغيير، والشعب هو الفاعل فيها، ويجب ألا تكون مسألة تضرر المدنيين سببًا للاستجداء بإنهاء الحرب، لأنهم طرف فيها” – هكذا قال!

وهذا قول “البلابسة” الأكثر شيوعًا، وصوتهم الأعلى المدعو “الانصرافي”: “إن هذه الحرب هي حرب الشعب، وأن الشعب هو الجيش، وبالتالي فالشعب هو الذي يقاتل مرتزقة أجانب”. وهذا هو قول الكيزان في المقام الأول، وهذا هو لسان قديم جدًا لعبد الله علي إبراهيم… قديم جدًا.

لا أعرف علامَ هذه الضجة التي أُثيرت بناءً على مداخلته أمس على قناة الجزيرة مباشر. فالرجل – ولا أتبلَّى عليه – هذا موقفه من جميع الحروب الأهلية في السودان، وموقفه هذا منطلق من تلك الزاوية الجغرافية الثقافية الضيقة، وهو موقف أصيل يتبناه الدكتور في جميع كتاباته ومواقفه، لا يحيد عنه منذ عقود، كما أسلفت. ولكنه يتغطى بغطاء اليسار والثقافة والاستنارة، وهو في حقيقة الأمر لا يختلف عن مهرجي السوشيال ميديا من “البلابسة”، ولا يختلف عن غلو الجنرالات في هذا الأمر. ولو تركه الناس في حاله، لتحول إلى ما هو دون ياسر العطا، وطالب بضرب مطاري أم جرس وأنجمينا، وغزو جوبا وأديس أبابا ونيروبي وأبوظبي، ودك الاتحاد الأفريقي وإيغاد!

ليس ذلك فحسب، بل بإبادة من يسميهم عرب الشتات ومسحهم من هذه الدنيا، وهذا لن يتحقق إلا باستمرار الحرب إلى آخر قطرة دم، ولن يكف عن ذلك إلا إذا وصلت الحرب إلى تلك الجغرافيا المقدسة التي ينطلق منها. فلا تهمه الخرطوم، ولا الجزيرة، ولا دارفور، كما لم يكن يهمه جنوب السودان، وجبال النوبة، والانقسنا. فغاية الرجل هي أن تسود تلك الجغرافيا والثقافة (ثقافة كيزان نهر النيل) وتستمر في سرقة موار البلاد والسيادة عليها، ولن يثني عبد الله عن موقفه هذا إلا بلوغ الحرب أرضه المقدسة. وأعني ما أقول. ولكن هل سمعنا الدعم السريع أمس حتى يسمعنا اليوم؟!

إنه رجل شديد القسوة في عصبيته هذه، لا يتزحزح عنها، ولا ينفطر قلبه لموت وهلاك أي أحد في السودان، ما لم يكن من جغرافيته. فالحرب إن بلغتها، سعى لإيقافها، وإن لم تبلغها، فليهلك سعد طالما عبد الله (سعيد) في حرزٍ أمين وسدٍّ منيع.

ربما كان عبد الله ليس كوزًا بالعضوية، لكنه منبع الكوزنة بالفكر. وموقفه هذا ليس بجديد، بل إن هذه الحرب هي حربه التي عمل وأنفق عمره من أجلها. إنه باختصار شديد نهريٌّ ومستعربٌ وعنصري، وهذا ما لا يستطيع أحدٌ غيري أن يقوله بهذا الوضوح، خشية “سطوته” الأكاديمية والثقافية، وادعائه بالماركسية واليسار، وخشية مريديه وقطيعه من تلامذته العُميان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى