شهادات ضد صلاح سالم

على طريقِ الانعتاقِ من الهيمنةِ المصرية (4 – 20)
د. النور حمد
“لن يستطيع أحدٌ أن يركبَ على ظهرِك، ما لم تكن منحنياً”
مارتن لوثر كينج
شهادات ضد صلاح سالم
أود في هذه الحلقة من سلسلة المقالات هذه أن انتقل مما كان يجري من جانب مصر تجاه السودان في القرن التاسع عشر، إلى ما أخذت تعمل له عند منتصف القرن العشرين، حين أعلن البريطانيون نيتهم الخروج من السودان. لحظتها، انفتحت شهية الدولة المصرية لابتلاع السودان، وأخذت تعمل بدأبٍ شديدٍ على جر النخب السياسية السودانية لاختيار الاتحاد معها عقب خروج البريطانيين. ومن نماذج الأساليب التي اتبعتها مصر للهيمنة على السودان قبيل الاستقلال، ما أورده الدكتور منصور خالد نقلاً عن مذكرات عبد اللطيف البغدادي. فقد ذكر الدكتور الراحل، منصور منصور خالد أن البغدادي استمع إلى شهادة بعض المصريين العاملين في السودان، فيما يخص دخول أموال مصرية للتأثير على مجريات الانتخابات السودانية التي جرت في العام 1953م. وكان صاحب إحدى الشهادات التي استمع إليها البغدادي شهادة لمدير الري المصري. أما الشهادة الأخرى فكانت لصحفيٌّ مصريٌّ كان في زيارةٍ للسودان. ذكر البغدادي، أن الانطباع الذي خرج به من الاستماع إلى هذين الشخصين، أن ما قام به الصاغ صلاح سالم قد أضر بسمعة مصر، كما أنه أثار الشكوك حول وطنية الأحزاب الاتحادية.
أورد الدكتور منصور خالد، أيضًا، أن محاكمة جريدة “الناس” الأسبوعية، التي تم رفع دعوى ضدها في قضية نشر، وتولى فيها الدفاع عنها الأستاذان، محمد أحمد محجوب، ومحمد إبراهيم خليل، قد شهدت إقراراً من شاهدي الدفاعٍ في تلك القضية، وهما: خلف الله خالد، وميرغني حمزة. قال هذان الشاهدان إن حزبهما، وهو “الحزب الوطني الاتحادي”، قد تسلم أموالاً من صلاح سالم، ومن محمد أبو نار. وقد علق الأستاذ بشير محمد سعيد، رئيس تحرير صحيفة الأيام، على فوز عبد الرحمن علي طه في دائرة المسلمية في انتخابات 1958، بعد أن خسرها أمام حماد توفيق المدعوم مصريًّا في العام 1953م، بقوله: “ويلذ لي هنا أن أذكر أن السيد عبد الرحمن علي طه ما كان ليفقد دائرة المسلمية في انتخابات عام 1953م، لولا أن حكومة مصر في ذلك الوقت قد سخَّرت كل إمكانياتها لإسقاطه”. ومضى بشير محمد سعيد ليقول إن مصر أرسلت الدرديري أحمد إسماعيل، واليوزباشي أبو نار، وغيرهما، لشراء الذمم والضمائر، وإفساد الناخبين. وأن مصر قد أنفقت عشرات الألوف من الجنيهات لإسقاط عبد الرحمن علي طه. (راجع: فدوى عبد الرحمن علي طه، أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه (1901 1969)، الخرطوم: دار النشر جامعة الخرطوم، (2004)، ص ص 320- 321).
مصر تستخدم الاتحاديين
بعد أن قرر السودانيون، بالإجماع، عند لحظة الاستقلال وخروج البريطانيين من البلاد، رفض خيار الوحدة مع مصر، تحوَّلت الخطة المصرية البديلة للهيمنة على السودان، نحو لم شمل الحزبين الاتحاديين؛ الحزب الوطني الاتحادي، وحزب الشعب الديمقراطي، ليصبحا ذراعًا خادمًا لها داخل السودان. وحانت الفرصة الذهبية لمصر بعد أن فقد السيد، إسماعيل الأزهري السلطة في عام 1956. فالأزهري الذي أشعر المصريين بأنه أقوى نصير لخيار الوحدة معها، وقامت مصر، بناءً على ذلك، بدعمه بالأموال في انتخابات 1953، فأصبح رئيسًا للوزراء، غير رأيه لحظة الاستقلال وانحاز إلى خيار رفض الوحدة لكن، نتيجةً لسقوط حكومته، عاد إسماعيل الأزهري، الذي عُرف بالبراغماتية، إلى مغازلة مصر مظهرا استعداده للعودة إلى الحضن المصري، من جديد.
كانت الحكومة التي أعقبت حكومة الأزهري هي حكومة حزب الأمة. وكانت برئاسة الأمين العام لحزب الأمة، عبد الله خليل. وقد تشكلت بناءً على إئتلافٍ بين حزب الأمة وحزب الشعب الديمقراطي. وكان العداء، حينها، مستحكمًا بين الحزبين صاحبي النزعة للاتحاد مع مصر، وهما: الحزب الوطني الاتحادي، الذي يترأسه إسماعيل الأزهري، وحزب الشعب الديمقراطي التابع لطائفة الختمية، التي يرعاها السيد علي الميرغني. بسبب ذلك العداء المستحكم، استطاع حزب الأمة أن يجر إلى جانبه حزب الشعب الديمقراطي ليكوِّنا معًا حكومة إئتلافية سُميت بـ “حكومة السيدين”، إشارةً إلى زعيمي الطائفتين الكبيرتين، السيد علي الميرغني، والسيد عبد الرحمن المهدي. وقد كان حزب الشعب الديمقراطي مستعدًا أصلا للثأر من إسماعيل الأزهري وزملائه من رموز الحزب، الذين ظلوا يسيئون إلى السيد علي الميرغني، ويسخرون منه عبر حملاتٍ هجوميةٍ مكثفة، برز فيها القطب الاتحادي الشهير، يحي الفضلي.
عنى مجيء حزب الأمة إلى السلطة، بالنسبة لمصر، انتصارًا للتيار الاستقلالي المعادي للوحدة معها، أو، على الأقل، شكل مانعًا أمام إتاحة المجال لها للهيمنة على مجمل الشؤون السودانية، ولو من على بعد. لكن، بما أن الحزب الحليف لحزب الأمة الذي شكل معه الحكومة، هو حزب الشعب الديمقراطي، الذي ترعاه طائفة الختمية، ذات الارتباط الوثيق جدًا بمصر، فقد رأت مصر أن تعمل على جره خارج الإئتلاف الحاكم، ليقف إلى جانب الحزب الوطني الاتحادي بقيادة إسماعيل الأزهري ليسقطا معًا من داخل البرلمان حكومة حزب الأمة بقيادة عبد الله خليل. وبالفعل، استدعت مصر زعماء الحزب الوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقرطي إلى القاهرة لترتيب إسقاط حكومة حزب الأمة التي يرأسها عبد الله خليل. وللغرابة، صرح قطب حزب الشعب الديمقراطي، السيد علي عبد الرحمن الضرير، وهو في القاهرة، أنه يقف في المعارضة لحكومة حزب الأمة. قال السيد، علي عبد الرحمن هذا، وللغرابة الشديدة، في وقت كان حزبه؛ حزب الشعب الديمقراطي، لا يزال شريكًا لحزب الأمة في الحكم. بل، ولديه وزراء في حكومة عبد الله خليل، لا يزالون على رأس عملهم. أكثر من ذلك، فقد كان السيد، علي عبد الرحمن نفسه من بين هؤلاء الوزراء في الحكومة القائمة. فقد كان، لا يزال يشغل منصب وزير الخارجية في ذات الحكومة، حين أصرح في القاهرة بأن حزبه يقف في المعارضة!
لابد من الإشارة هنا إلى أن التآمر المصري على حكومة عبد الله خليل قد حدث عقب المواجهة التي جرت بينها وبين الحكومة المصرية حول مثلث حلايب. وكانت قد بلغت من الحدة درجةً جعلت عبد الله خليل يحرك الجيش السوداني نحو مثلث حلايب. وقد انفجرت تلك الأزمة بسبب إدخال السودان مثلث حلايب ضمن الدوائر الانتخابية السودانية. وقد كان ذلك سلوكًا طبيعيًا من جانب السودان، فحلايب سودانية وقد كانت بالفعل تحت الإدارة السودانية. وقد بقيت تحت الإدارة السودانية إلى أن احتلها عنوةً الرئيس المصري حسني مبارك، ردًّا على محاول اغتياله في اديس أبابا، التي دبرها نظام الإسلامويين السوداني في عام 1995. تراجع النظام المصري في فترة جمال عبد الناصر عن تصعيد المواجهة في قضية حلايب. وسبب ذلك فيما يبدو أن النظام كان يعد العدة لمناقشة مشروع اتفاقية 1959 لمياه النيل مع السودان. وبالفعل، كعادة المفاوضين السودانيين في الغفلة، جرى التوقيع على تلك الاتفاقية الكارثية ذات القسمة الطيزى. ويكفي من كارثيتها أن أحد أهم بنودها كان موافقة السودان على إنشاء السد العالي، نظير موافقة مصر على إنشاء السودان خزان الروصيرص. الشاهد، أن إجراء الحكومة السودانية الانتخابات في مثلث حلايب، بوصفها جزءً لا يتجزأ من السودان، قد تواصل في كل الانتخابات اللاحقة، دون أي اعتراضٍ من الجانب المصري، إلى أن احتلتها مصر في عام 1995ن ولم تخرج منها حتى الآن.
مصر وانقلاب عبود 1958
أحس رئيس الوزراء عبد الله خليل بأن الاستعمار المصري الذي خرج من الباب، قد أخذ يحاول أن يعود عبر النافذة، مستخدمًا الحزبيْن الاتحاديين استخدامًا سيئًا يهدد استقلال البلاد وسيادتها. لحظتها، وضح أن شؤون السودان تجري إدارتها من القاهرة. وأن القاهرة تجد من السياسيين السودانيين، من هو جاهز للتعاون معها في هذا التدخل السافر القبيح. لذلك، لأجل قطع الطريق على إسقاط حكومته عبر انسحاب حزب الشعب الديمقراطي من الائتلاف الحاكم، بطرح صوت الثقة فيها، وهي لم تكمل عامها الثاني بعد، دعا عبد الله خليل الفريق إبراهيم عبود قائد الجيش لاستلام السلطة. وهكذا، حدث أول انقلاب عسكري على النظام الديمقراطي في السودان. وكان ذلك بعد عامين فقط من الاستقلال. ومن هنا بدأ مسلسل الانقلابات العسكرية في السودان. وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء عبد الله خليل يتحمل وزر الانقلاب، إلا أن في وسع المرء أن يقول: لولا التدخل المصري السافر في الشؤون السودانية وارتضاء الحزبين الاتحاديين أن يكونا مطيةً لخدمة المصالح المصرية في السودان، لما حدث الانقلاب. ولربما استمر النظام الديمقراطي في السودان، في ثباتٍ ونماءٍ، مثلما استمر في الهند إلى اليوم، التي نالت استقلالها قبل السودان بتسعة أعوامٍ فقط. ورغم أن عبد الله خليل قد قصد بدعوة قائدة الجيش لاستلام السلطة أن يبعد التأثير المصري على السياسة السودانية، فإن نظام الفريق عبود العسكري على الرغم من توجهه نحو الغرب مخالفًا بذلك خط الرئيس جمال عبد الناصر الواقع في الحضن السوفيتي، إلا أن نظام عبود كان ضعيفًا جدا أما النظام المصري. وعلى الرغم من ان اتفاقية السد العالي جرى التوافق عليها في الفترة الديمقراطية، إلا أن فترة حكم الفريق إبراهيم عبود هي التي شهدت تهجير أهالي حلفا وإغراق الأراضي السودانية بزرعها وضرعها وكنوزها الأثرية التي لا تقدر بثمن. فقد جرى إخلاء المنطقة ونقل أهاليها المنطقة إلى سهل البطانة لكي تتمدد بحيرة السد العالي داخل الأراضي السودانية.
انقلاب العقيد جعفر نميري 1969
لقد كانت طبيعة ما يسمى داخل القوات المسلحة “تنظيم الضباط الأحرار”، طبيعةً قوميةً عربية. وكان هذا التنظيم ذو الميول القومية العربية هو الذي وقف وراء انقلاب العقيد، جعفر محمد نميري على النظام الديمقراطي في السودان في عام 1969. وواضحٌ أن قيام تنظيم تحت مسمى “الضباط الأحرار” داخل الجيش السوداني لم يكن سوى انعكاسٍ للتأثير المصري المباشر وخط مصر في معاداة الغرب، حينها، ومعاداة التحول الديمقراطي. وهما السمتان البارزتان في سياسات الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر. وقفت الأحزاب السودانية موقفًا سلبيًّا إزاء انقلاب جعفر نميري. وكان الحزب الوحيد الذي أسفر بتأييد الانقلاب هو الحزب الشوعي السوداني، بل وأصبح بعض قيادييه وزراء في حكومة نميري الأولى.
من أبرز علامات التعاضد بين نظام جمال عبد الناصر العسكري في مصر مصر ونظام جعفر نميري العسكري في السودان وعلى حرص مصر على بقاء النظام الخاضع لإرادتها في السودان في سدة الحكم، تدخل سلاح الجو المصري لقصف الجزيرة أبا أثناء النزاع المسلح الذي نشب بين قوى المعارضة الحزبية، ونظام جعفر نميري في عام 1970. لكن، بعد عامٍ واحدٍ من أحداث الجزيرة أبا حدثت محاولة انقلابية قام بها الحزب الشيوعي السوداني على جعفر نميري. فما كان من مصر إلا أن تدخلت بالاتفاق مع العقيد معمر القذافي لإفشال ذلك الانقلاب. بناءً على ذلك الاتفاق قامت ليبيا باعتراض الطائرة المدنية البريطانية التي كانت تحمل قائدي الانقلاب العائدين على متنها من لندن إلى الخرطوم، عند مرورها فوق سماء بنغازي. أُنزلت الطائرة في مطار بنغازي وجرى اعتقال قائديْ الانقلاب، الأمر الذي أفشل الانقلاب.
أيضًا شهدت بدايات فترة حكم نميري ما سمي مشروع الوحدة الثلاثية بين مصر وليبيا والسودان. ولكن سرعان ما دبَّت الخلافات بين مكونات هذا الحلف الثلاثي، خاصةً عقب وفاة الرئيس جمال عبد الناصر في نفس عام 1970. فقد اتسعت الشقة بين معمر القذافي وجعفر نميري، وبلغت حدًا جعل القذافي يفتح معسكرات للتدريب على حمل السلاح للمعارضة السودانية في جنوب ليبيا. من تلك المعسكرات انطلقت محاولة 1967 المسلحة التي حاولت إسقاط نظام جعفر نميري بعمل عسكري جرى في داخل العاصمة الخرطوم. وفي تعدٍّ آخر، أرسل القذافي طائرة عام 1984، لتقصف إذاعة أمدرمان ومنزل السيد الصادق المهدي. أما السادات فقد أضطر إلى توجيه ضربةٍ موجعةٍ للعقيد القذافي في عام 1977، بسبب تحرش القذافي بمصر، بسبب توقيعها اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل. وعمومًا، فإن فترة حكم نميري قد اتسمت بالتبعية الكبيرة لمصر. فقد أنشأ نميري حزبه الأوحد الحاكم في السودان، الاتحاد الاشتراكي السوداني، على غرار حزب عبد الناصر الحاكم، المسمى الاتحاد الاشتراكي العربي. وفي عام 1982 وقَّع نظام الرئيس حسني مبارك ونظام الرئيس جعفر نميري ما سمي ميثاق التكامل بين مصر والسودان. لكن، لم تنجح تلك الإجراءات الفوقية في خلق أي صورة عملية للتكامل الاقتصادي أو السياسي أو العسري بين مصر والسودان. فبعد عام واحدٍ من توقيع ميثاق التكامل أعلت جعفر نميري تطبيق الشريعة الإسلامية متخذًا خطًا إخوانيًّا صريحا.
ويبدو أن خطة مصر للهيمنة على السودان، قد انحصرت، في نهاية الأمر وبعد عديد التجارب، في دعم الأنظمة العسكرية في السودان. فبعد أن دعمت انقلاب جعفر نميري، الذي أسقطته ثورة أبريل الشعبية في عام 1985، عادت مصر لتكون أول الدول التي اعترفت بانقلاب الترابي/البشير في عام 1989 الذي قوَّض الديمقراطية الثالثة. ومع كل حالات الشد والجذب التي حدثت بين مصر ونظام الترابي/البشير في فترة حسني مبارك، ورغم قمع نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي الحالي الوحشي للإسلاميين في مصر، نجدها قد وقفت ضد ثورة ديسمبر 2018 الشعبية في السودان، التي لا تزال فصولها تتوالى حتى الآن. قدمت مصر للفريق البرهان وللإسلاميين الواقفين خلفه كل أنواع الدعم العسكري والديبلوماسي، مع انخراطٍ لا يني في شق صفوف الثوار، وفي تشكيل الحواضن الشعبية الضرارٍ الساندة للفريق البرهان، لكي يستعيد هو والإسلامويون كامل سلطتهم، ويقضوا على الثورة السودانية التي انطلقت مطالبةً بالحكم المدني وبالتحول الديمقراطي، قضاءً مبرما.