بمناسبة اليوم العالمي.. رسالة في بريد المرأة السودانية

بمناسبة اليوم العالمي.. رسالة في بريد المرأة السودانية
أجوك عوض الله جابو
تعافينا لتتعافى الأوطان..
قصاصات متفرقة، لوحة واحدة
كان قدرنا أن نجتمع في وطن واحد تحت مسمى مشترك، لكن بامتيازات مختلفة ومفارقات صارخة، وفقًا لسياسة ممنهجة لم تتوقف عن توسيع الهوة بين مكوناته. استندت هذه السياسة إلى دعاية واسعة، واستثمرت في المشاعر لصياغة تاريخ مُحرّف، يرسّخ الإقصاء، التكفير والتخوين ويؤطر لصورة ذهنية مقصودة، أُحكم رسمها بإتقان. وليس ذلك بغريب، فكم يكون الإنسان جبارًا حين يمتلك الأدوات! .
لم تكن المواطنة شفيعًا، ولم يكن التشابه في النوع مدعاةً للرحمة، بل على العكس، صار تمييزًا مجحفًا صاغ ملامح مجتمع مقسم، حيث فرضت فئةٌ معينة تعريفًا أحاديًا للوطنية، يقصي الآخرين ويعيد تشكيلهم في قوالب متدنية.
في قلب المأساة..
عاشت المرأة الجنوبية تجربة مريرة في ظل وطن واحد نازحةً ولاجئة. واحدٌ وعشرون عامًا من الغربة داخل حدوده، تحت وطأة آلة حرب لا تتوقف عن حصد الأرواح، بينما السودان يلتهم أبناءه. كان سؤالها الدائم : “أيُغترب المرء في وطنه؟!” والإجابة كانت قاسية .. نعم، يُقصى، يُضطهد، ويُجبر على الرحيل دون أن يبارح أرضه.
كانت المأساة تتجدد، لم تكن حكاياتهن حكاياتنا لأنها بالكاد يعرفننا. ومعرفة الآخر، في أبسط أشكالها، تعني الإحساس بألمه، والتضامن الحقيقي لا يولد إلا من إيمان بالمبدأ، وليس من منطلق عاطفي عابر. ومع ذلك، كان هناك عزاءٌ واحد : قناعةٌ بأن ليالي الظلم مهما طالت، لا بد أن يعقبها صبحٌ جديد.
السودان .. القصة التي لم تنتهِ ..
عندما لملم الجنوب أطرافه، وُلد جنوبٌ آخر، وشهدنا نساءً من مناطق أخرى من بقاع السودان يحملن ذات الراية التي حملناها يومًا. كتبنا حينها في علي جدار صفحتنا : “عذرًا، هل وُلِدت هؤلاء خادمات؟!” فتُهِمنا حينها بالعنصرية، بينما لم يكن السؤال سوى محاولة لفضح مهندس هذه الصورة النمطية، الذي يعيد تشكيل واقعنا بعناية، ليحصر التنوع السوداني العظيم في وهم النقاء العرقي والاستعلاء الثقافي.
إن تكرار ذات المشاهد والصور لم يكن محض صدفة، بل نتاج عقلية شريرة تعمل في الخفاء، لتنتج هذه الكوميديا السوداء التي يعيشها السودان اليوم.
هل السودان مستهدف؟
نعم، لكنه مستهدف أولًا من أبنائه قبل أي عدو خارجي. ما نشهده الآن ليس إلا انفجارًا لتراكم المرارات والظلم، ونتيجة حتمية لرفض البعض الاعتراف بحتمية التغيير. المشكلة الحقيقية ليست فقط في الذين يمارسون الاستبداد، بل في العقول التي لا تزال تؤمن بوجود “مغفّل نافع” يُوجَّه بالإملاء عليه، دون أن تدرك أن الزمن تغيّر، وأن أجيالًا جديدة نمت بوعي مضاد للخضوع والخنوع.
خصوصية الرسالة…
نضع هذه الرسالة في بريد المرأة السودانية، بدافع الحرص والنصح، لسببين:
1. لأننا، من موقعنا خارج الدائرة، نستطيع رؤية المشهد من كل زواياه.
2. لأننا تعافينا.
لعبت بعض النساء السودانيات، اللائي استأثرن برضا السلطة عبر التاريخ، دورًا محوريًا في إذكاء الفتنة وتبرير سفك الدماء، بدافع الأنانية والسعي وراء الامتيازات، بينما في ذات اللحظة، كانت أصوات نساء دارفور تتعالى استغاثةً من انتهاكات جسيمة. لكن لا حياة لمن تنادي.. فـ “الحصّة وطن” آنذاك!.
مؤكد السودان غير محظوظٍ بالمرة، فـ”القونات” يتصدرن المشهد في زمن الحرب، بل ويحددن معايير الوطنية محاولاتٍ عابثة لغسل سيرتهنّ الملطخة! على حساب أرواح الأبرياء.
إلى أين تمضي خطى الشر؟ .
ترتفع الأصوات الداعية لاستمرار الحرب، ويعلو الخطاب الانتقامي، حتى قبل أن تضع الحرب أوزارها. كَثُر الوعيد بالانتقام، وتعالت نداءات الإقصاء، وكأن البعض امتلك حصرية توزيع صكوك المواطنة، يقرر من يحق له البقاء ومن يُقصى ويجهز عليه.
من أين يستمد البعض هذه الشرعية المطلقة؟! ومن منحهم هذا الحق في تقرير مصائر الآخرين؟! .
لماذا نعيد الإجترار والتذكير؟
استدعينا هذا الشريط المؤلم لنؤكد أن ما يحدث اليوم ليس وليد اللحظة، بل نتيجة سياسات مركزية ظالمة امتدت لعقود. والمؤكد أن المرأة كانت الأكثر تضررًا، سواء أكانت منتميةً للنظام وتُستغلّ في تجييش العواطف، أم كانت ضحيةً تُنتهك حقوقها. ولهذا، ندعو إلى التصالح، ونبذ الكراهية، والاستعلاء العرقي، والازدراء الثقافي.
الوطن لا يُبنى إلا بالتسامح
إن الأحقاد كالنار، تأكل أول ما تأكل صاحبها. “النار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله”، ولا سبيل لإنقاذ السودان إلا بالتسامح والاعتراف المتبادل بحق الجميع في وطنٍ يسعهم جميعًا.لأن الانتقام يولد انتقاماً مضاداً وفق منطق الأشياء.
نسأل الله أن يعمّ السلام السودان، وأن ينعم أهله بالأمان والرخاء، بعد أن يُرفع عنهم الجوع والخوف.
وكل عامٍ ونساءُ دولتي السودان، أيقوناتُ سماحٍ وتصالحٍ في أوطانٍ معافاة.