قراءة واقعية لتحالف السودان التأسيسي (٣ – ٣)
الجاك محمود أحمد الجاك
إنهال الحرس الأيديولوجي للسودان القديم وأبواق المركز بالنقد والهجوم على تحالف السودان التأسيسي بالتركيز على الحركة الشعبية مستندة على فرضيات غير واقعية وخطاب عاطفي وتعبوي مبتذل قبل التريث والإطلاع على ميثاق التحالف والدستور الإنتقالي لجمهورية السودان لسنة ٢٠٢٥. نحن نحترم رأيهم وموقفهم أيا كان، لكن ما يثير السخرية كون نقدهم لا يرتكز على حيثيات موضوعية. سأسلط الضوء في الجزء الثالث والأخير من المقال على أهم الأهداف والمكتسبات التي تكمنت الحركة الشعبية وحلفاءها في قوى تحالف السودان التأسيسي من تحقيقها بالتركيز على الدستور الإنتقالى لجمهورية السودان لسنة ٢٠٢٥ هذا الدستور الذي خاطب جذور المشكلة بوضوح ونص على أهم القضايا الدستورية والتأسيسية التي فشل الآباء المؤسسين والنخب السياسية في مخاطبتها منذ الإستقلال، وأذكر منها في هذا المقال على سبيل المثال لا الحصر:
أولا: الهوية الوطنية للدولة:
ورد في الباب الأول (طبيعة الدولة) من الدستور الإنتقالي لجمهورية السودان لسنة ٢٠٢٥ في المادة (٤)، الفقرات (١ – ٢ – ٣) أن السودان دولة علمانية ديمقراطية لا مركزية ذات هوية سودانوية تقوم على:
١. فصل الدين عن الدولة
٢. فصل الهويات الثقافية والعرقية والجهوية عن الدولة
٣. المواطنة المتساوية كأساس للحقوق والحريات والواجبات
فلأول مرة في تاريخ السودان يتم النص دستوريا وبشكل واضح وصريح على مادة تخاطب وتعالج مشكلة الهوية الوطنية بشكل جذري وموضوعي، وذلك لأن مكونات تحالف السودان التأسيسي واعية بطبيعة المشكلة ومدركة أن الحروب التي دارت وما زالت تدور في السودان بكل إفرازاتها وإنتهاكاتها وفظائعها من قتل وإبادة جماعية وتنزيح وتهجير قسري ولجوء ومأساة إنسانية، بالإضافة إلى تنامي وشيوع خطاب الكراهية لدرجة إقدام السوداني على ذبح ونحر مواطن سوداني مثله وأكل أحشائه والتمثيل بجثته وهو يكبر ما هي إلا تمظهرات للمشكلة الحقيقية وهي صراع الهوية Conflict of identity. وبسبب صراع الهوية سبق وأن قتلت الدولة أكثر من إثنين مليون مواطن جنوبي ودفعت جزء عزيز من البلاد دفعا إلى الإنفصال. أعلنت الدولة لذات السبب العنصري الجهاد على شعب النوبة وإرتكبت الإبادة الجماعية ضد الزرقة في إقليم دارفور. وبالإتفاق على السودانوية يكون تحالف السودان التأسيسي قد نجح في إعادة تعريف الهوية الوطنية على أساس موضوعي ومنطقي مقبول لكل مكونات السودان، وتجاوزت الهوية الأحادية الإقصائية التي فرضت قسرا على كل شعوب السودان، وهي هوية قائمة في الأساس على مغالطة وإنكار حقائق التنوع التاريخي والتنوع المعاصر. ما تم التوافق عليه في هذه المادة يمثل رؤية الحركة الشعبية لمعالجة مشكلة الهوية الوطنية ويعبر عن طرحها لنظرية الوحدة في التنوع في مواجهة نظرية بؤتقة الإنصهار التي تمثل خط السودان القديم وتوجهاته التي تبدو واضحة في مناهج التعليم والإعلام والقوانين وفي السياسة الخارجية. الشاهد أن المهمة الرئيسية للدبلوماسية السودانية في كل الحكومات والأنظمة التي تعاقبت على حكم السودان ظلت قائمة على إنتزاع السودان من سياقه الأفريقي وتعريفه وتقديمه للعالم كدولة عربية إسلامية، وهذا ما يفسر سر تعيين منسوبي وزارة الخارجية واطقم سفارات السودان وبعثاته الدبلوماسية ممن تتسق سحناتهم وألوانهم وإنتماؤهم الإثني مع طبيعة المهمة الرئيسية للدبلوماسية السودانية.
ثانيا: علاقة الدين بالدولة: لأول مرة أيضا يتم النص دستوريا وبصورة صريحة على أن السودان دولة علمانية ديمقراطية تقوم على فصل الدين عن الدولة. هذا النص الدستوري حسم المغالطات الطويلة والجدل العقيم حول قضية علاقة الدين بالدولة بصورة جذرية، ومنع تسييس الدين وإقحامه في المجال العام (فصل السلطة الزمنية عن السلطة الروحية). ظلت مؤسسة الجلابة تستخدم الدين كأداة في الصراع السياسي لتكريس القمع والقهر، وفرضت الدين كواحد من محددات الهوية الوطنية، وكمصدر رئيسي للتشريع في السودان، وخلقت بذلك ترسانة قوانين لإخضاع الآخر الديني والثقافي والعرقي وإذلال الأغلبية المهمشة وحماية الإمتيازات التاريخية لذلك كان لا بد من منع الأقلية الحاكمة دستوريا من إستخدام هذا الكرت.
ثالثا: يعتبر النص على المبادئ فوق الدستورية في المادة (٧) من الدستور الإنتقالي لجمهورية السودان لسنة ٢٠٢٥ خطوة متقدمة في إتجاه تحقيق الإستقرار الدستوري لأول مرة، وبهذه الخطوة نكون قد إستلهمنا تجارب وسوابق دول وشعوب وأمم كثيرة تعلمت وإعتبرت من تجاربها المريرة الشبيهة بتجربة السودان وتمكنت من تجاوزها بالتوافق على مبادئ فوق دستورية كأحكام وقواعد أعلى مرتبة من الدستور، ملزمة وعابرة للأجيال ومحصنة ضد الإلغاء والتعديل أو التعطيل حتى من قبل الأغلبية. كما نص الدستور الإنتقالي على أنه في حال تقويض أيا من المبادئ فوق الدستورية يحق لكل إقليم المقاومة واللجوء إلى ممارسة حق تقرير المصير، لأن الهدف الأساسي من المبادئ فوق الدستورية في أي دولة توافقت على مبادئ فوق دستورية هو منع طغيان الحكام وإستبداد الأغلبية كما يقول أحد فقهاء القانون الدستوري في الولايات المتحدة الأمريكية صاحبة أقدم وأول دستور مكتوب في العالم: (إن كل تراثنا الدستوري يتمحور حول فكرة عدم إعطاء الدولة أي قوة للسيطرة على عقل وضمير الفرد). هنا يكمن سر تقدم الولايات المتحدة الأمريكية وتفوقها على جميع دول العالم لتصبح قوة خارقة Superpower بفضل قدرتها على إدارة التعدد والتنوع والتوافق على مبادئ فوق دستورية والتي تجسدها وثيقة الحقوق (Bill of rights) في الدستور الأمريكي والتي تطلق عليها (Inalienable rights بدلا عن Supra-constitutional principles). وجاء أيضا على لسان أحد فقهاء القانون الدستوري في الولايات المتحدة الأمريكية ما يؤكد أن المبادئ فوق الدستورية مبادئ ملزمة وعابرة للأجيال قوله: (أن الناس الذبن أسسوا الولايات المتحدة الأمريكية هم أناس أحرار فكريا فروا من جحيم الإستبداد والطغيان الفكري لملوك وقساوسة القرون الوسطى في أوربا – فهل يمكن أن يتركوا لأجيال المستقبل المجال لكي ينحرفوا نحو الطغيان مرة أخرى؟!….وإستطرد قائلا: لقد فتح المشرعون الأوائل بابا للحرية، ولم لا؟! ولن يستطيع المشرعون اللاحقون سده بأي حال من الأحوال).
رابعا: نصت المادة (٤٦)، الفقرات (١ – ٢ – ٣) من الدستور الإنتقالي على مبدأ العدالة والمحاسبة التاريخية وإجراءات الحقيقة والمصالحة، لكن ليس على هدى تجربة مؤتمر كوديسا في جنوب أفريقيا كما كان يريد الإمام الصادق المهدي إستغفال الضحايا وتمييع قضيتهم العادلة. إذ يحدد القانون وفقا للدستور الإنتقالي أشكال ومستويات ووسائل العدالة والمحاسبة التاريخية والتي تشمل المحكمة الجنائية الدولية، الأمر الذي يضمن عدم الإفلات من المحاسبة والعقاب في الجرائم التي أرتكبت في حق الوطن والمواطن، وضمان الإقتصاص للضحايا.
خامسا: المادة (٩٢): الأجهزة النظامية:
حسمت هذه المادة مسألة تأسيس جيش وطني جديد موحد. جيش مهني وقومي بعقيدة عسكرية وطنية جديدة، على أن يعكس في تكوينه كافة أقاليم السودان على أساس التوزيع السكاني العادل ويكون مستقلا عن أي ولاء أيديولوجي أو إنتماء سياسي أو حزبي أو جهوي. وحدد الدستور الإنتقالي أن دور الجيش الوطني يقتصر على حماية البلاد وأراضيها وسيادتها الوطنية وحماية الشعوب السودانية وحماية النظام العلماني الديمقراطي وضمان إحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية وحماية النظام الدستوري، دون تدخل في الشأن السياسي أو الإقتصادي. هذه المادة حددت بصورة واضحة شكل الجيش الوطني وعقيدته العسكرية ومهامه حتى يطمئن السودانيون أنه جيش وطني يمثلهم جميعا، وليس جيش مؤدلج ومسيس تستخدمه الأقلية الحاكمة كأدة للقمع وتكريس مشروعية العنف وحراسة الإمتيازات التاريخية.
سادسا: جاء في المادة (٦) من الدستور الإنتقالي: (تؤسس وحدة السودان على الوحدة الطوعية والإرادة الحرة لشعوبه وإحترام التنوع والتعدد العرقي والديني والثقافي والمساواة بين جميع الأفراد والشعوب في الحقوق والواجبات). لقد أرست هذه المادة أساسا متينا لوحدة جاذبة يمكن أن يفخر بها كل سوداني ويدافع عنها كوحدة عادلة، لكن من يصرون على الوحدة القسرية القديمة وحدهم هم الإنفصاليون الحقيقيون لأن الوحدة لا تبني بالقهر والعنصرية.
بيت القصيد أن الدستور الإنتقالي لجمهورية السودان لسنة ٢٠٢٥ قد أجاب على كل الأسئلة الدستورية والتأسيسية المسكوت عنها منذ العام ١٩٥٦، وخاطب جذور المشكلة السودانية بوضوح وعمل على تضمين كل الحقوق السياسية والإجتماعية والإقتصادية لشعوب الهامش، ونص على المواطنة المتساوية كأساس للحقوق والحريات والواجبات للمواطنين السودانيين دون تمييز. وبذلك يكون هذا الدستور الإنتقالي قد وضع أساس لعقد إجتماعي وأرسى قاعدة جديدة للقبول بالعيش المشترك بين كل الشعوب السودانية، ومهد الطريق أمام السلام الشامل والعادل.
هكذا تمضي الحركة الشعبية بوجودها كقوة رئيسية ولاعب من العيار الثقيل في تحالف السودان التأسيسي بخطى واثقة في النضال من أجل تحقيق مشروع السودان الجديد الذي طالما ناضلت من أجله لأكثر من أربعين عاما ولن تحيد عنه.
وبهذا الدستور الإنتقالي يكون تحالف السودان التأسيسي كأكبر تحالف سياسي وعسكري في تاريخ الحركة السياسية السودانية قد نجح في وضع الكرة في ملعب شعوب الهامش وقوى التغيير الحية وكل المتضررين من الأوضاع القائمة فى السودان لإقتناص هذه الفرصة والوقوف في الجانب الصحيح من التاريخ لنيل شرف المساهمة في إعادة السودان إلى منصة التأسيس وبناء سودان جديد موحد يسع الجميع.