علمانية الدولة بعيداً عن الميثاق التأسيسي!

علمانية الدولة بعيداً عن الميثاق التأسيسي!
رشا عوض
“ علمانية الدولة” من وجهة نظري من أهم الأفكار التأسيسية للسودان المسالم المستقر، فهي ضرورة وحدوية ونهضوية، هذا ما فصلته في مقالات طويلة قبل انفصال جنوب السودان.
ومن اكبر الاخطاء الاستراتيجية للاحزاب الكبيرة خصوصا حزبي الامة والاتحادي الديمقراطي( احزاب الاغلبيات البرلمانية في العهود الديمقراطية) هو عدم وضوح الرؤية تجاه هذه القضية منذ الستينات وحتى الان.
في بلد متعدد الاديان والثقافات اي حكم على اساس ديني يعني تقسيم الوطن ولا شيء غير ذلك.
الدولة الوطنية الحديثة هي كيان علماني بحكم طبيعتها البنيوية ويستحيل ان تكون غير ذلك!
وعلمانية الدولة لاتحرم المواطن من ان يكون متدينا ولا تسلبه حقه في ان يجعل الدين مرجعيته الاخلاقية والاساس الفلسفي الذي على ضوئه يشكل نظرته لنفسه وللعالم من حوله ، ولكن يظل كل ذلك في حدود الفرد وضميره وعقله، اما عندما نأتي الى تنظيم الفضاء العام الذي نتشاركه جميعا فان مرجعية السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية والتنمية والخدمة العامة مدنية وعسكرية هي ” العقل العمومي” ولا يمكن ان تكون شيئا غير ذلك.
ماهو مقابل الدولة العلمانية؟ هل هو الدولة الاسلامية؟ حسنا ما هي الدولة الاسلامية؟ ماهو برنامجها التفصيلي لادارة دولة سودانية بشروط اللحظة التاريخية وما هو قول الاسلام الفصل في تفاصيل هذه الدولة؟ وما الذي يعنيه تحديدا من يطالبون بتطبيق الشريعة الاسلامية؟
في اطار مساعدة بحثية للبروف عبد الله النعيم حملت هذه الاسئلة بنصها اعلاه وطفت به على اهم الرموز الفكرية الاسلامية التي تعارض علمانية الدولة في السودان ، من ضمن الذين ناقشتهم في هذه الاسئلة في مقابلات استغرقت ساعات ، كل من الامام الصادق المهدي ، الدكتور حسن عبد الله الترابي،البروف الطيب زين العابدين ، (رحمة الله عليهم اجمعين) ، والدكتور حسن مكي ، الشيخ ابو زيد محمد حمزة ارسلت له الاسئلة مكتوبة واجاب عليها كتابة، وقابلت كذلك الاستاذ محمد ابو زيد ( من جماعة انصار السنة المحمدية) ، وذهبت الى الشيخ عبد الحي يوسف في مكتبه بجامعة الخرطوم لمناقشته في ذات الاسئلة ولكنه اعتذر وقال انه لا يمكن ان يتعاون مع رجل كافر مثل عبد الله النعيم ونصحني انا بان لا اتعاون معه لانه لا شغل له سوى الاساءة للاسلام.
الذين كانت لديهم اجابات مفصلة لشكل الدولة التي يريدونها ولكنها حرفيا دولة خارج التاريخ تماما هم انصار السنة التقليديين( شيخ ابو زيد محمد حمزة ).
الشيخ الترابي على مدى ساعتين وخمسة واربعين دقيقة ظل يتحدث لي عن كيفية خروج السياسة والاقتصاد والفن وكل مساقات الحياة من الدين في الحضارة الغربية ، وان المسلم المطالب بالعلمانية كافر لانه مبعض بمعنى يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعضه، اما المسلم فهو من يوحد كل مساقات الحياة عبادة لله!
سألته كيف يفعل المسلم ذلك؟ ماهي مواصفات الدولة التي نستطيع ان نقول انها اسلامية ووحدت كل مساقات الحياة عبادة لله ؟ ما هو برنامجها السياسي والاقتصادي؟ ما هو شكلها!
اجابته اننا نستطيع الوصول اليها الا لو نجحنا في تجديد اصول الفقه!
الامام الصادق المهدي رحمه الله كان اكثر انفتاحا ومرونة في نقاش العلمانية اذ لم يكفرها ، بل اثبت لها ايجابيات مثل كفالة حقوق الناس بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية وقال ان المحتوى الايجابي للعلمانية مكفول في مقاصد الاسلام بشرط التأصيل المستنير والاجتهاد المؤسسي الذي يتجاوز ما اجمع عليه جمهور الفقهاء في قضايا معينة منها قضايا المرأة ووضعية غير المسلمين.
البروف الطيب زين العابدين والبروف حسن مكي ذهبا في ذات اتجاه الحاجة للتجديد ومراجعة الموروث الفقهي واتفقا حول عدم وجود شكل ومضمون متفق عليه لما يسمى ” الدولة الاسلامية”
خلاصة البحث الذي شمل مقابلات شخصية وتلخيص كتب ومقالات ومحاضرات لاهم رموز ” الاسلمة والتأصيل” كانت كالاتي:التيار السلفي المحافظ مطمئن لامكانية اعادة عقارب الساعة الى الوراء وتطبيق الشريعة برؤية فقهاء اهل السنة والجماعة واحياء الخلافة الاسلامية ومخاصمة الديمقراطية وحقوق الانسان.
اما التيار المستنير فهو معترف صراحة بان لا وجود لشيء اسمه دولة اسلامية حتى على مستوى التنظير ! اذ ان التنظير لمثل هذه الدولة في واقعنا المعاش يتطلب “تجديد اصول الفقه عند الدكتور حسن الترابي” ، ويتطلب” التأصيل المستنير ” و ” الاجتهاد المؤسسي” عند الامام الصادق المهدي .
عندما وضعت خلاصة البحث امامي وكان ذلك عام ٢٠٠٤ ، تساءلت بحزن عميق، ما دامت فكرة الدولة الاسلامية والشريعة الاسلامية والدستور الاسلامي بهذه الهلامية وعدم التماسك النظري حتى في اذهان دعاتها ، وما داموا جميعهم معترفون بعدم صلاحية تطبيق الشريعة بشكلها التقليدي في واقعنا المعاصر، لماذا اهدرنا كل هذا الوقت والطاقة السياسية في مساجلات حول الدستور الاسلامي في الستينات؟ لماذا قوضنا التجربة الديمقراطية الاكتوبرية بطرد الحزب الشيوعي من البرلمان على اساس المزايدات الدينية؟ لماذا عجزنا عن الغاء قوانين سبتمبر وجعلناها مرادفا للاسلام من حيث هو؟ لماذا سمحنا للاخوان المسلمين بمختلف تشكيلاتهم بممارسة كل هذا الابتزاز والارهاب الديني وافساد ديننا ودنيانا معا بالبلطجة والصفاقة السياسية والمزايدة بدولة وهمية ونظام حكم اسلامي متخيل وحتى على مستوى الخيال غير واضح المعالم بمعنى انه نظام ” قيد التخيل” ؟ لماذا يسمي حزب الامة برنامجه الانتخابي في الثمانينات ” نهج الصحوة الاسلامية ” وما كانت البلاد من الناحية الموضوعية في حاجة لمثل هذا بل كانت متعطشة للسلام والتنمية وبحاجة لهزيمة ارهاب الجبهة الاسلامية ؟ لماذا دفعت الحركة الاسلامية اسما الاجرامية فعلا بآلاف شبابها للموت في جنوب السودان تحت رايات الجهاد وفي النهاية فقدوا ارواحهم دون ان يتحقق فتح اسلامي لجنوب السودان الذي استقل بدولة علمانية فهل جاهد شباب الكيزان في سبيل دولة علمانية في جنوب السودان؟ ام ان الامر كما قلنا وسنظل نكرر صراع سلطة وثروة لصالح مجرمين ومحتالين كبار في الداخل والخارج وعامة الشعب بما فيه ” كيزان الطبقة الدنيا من الغلابة المضللين بالعاطفة الدينية” مجرد حطب لنار حروب مدمرة للوطن يحصد ثمارها الافاكون؟!
والسؤال الاهم من ذلك كله لماذا حتى الان لم نتعلم الدرس الصحيح وما زلنا رهن الابتزاز الاسلاموي!لماذا ما زلنا نرتجف من مفردة ” علمانية” في حين ان اردوغان الاخ المسلم يتباهى بعلمانية تركيا! ويشد الرحال الى مصر لينصح جماعة الاخوان المسلمين هناك بالالتزام بعلمانية الدولة! وطيلة حكم هذا الاردوغان الاخ المسلم الممتد لعشرين عاما ظلت تركيا دولة علمانية بدستور علماني ، ومطبعة مع اسرائيل بعلاقات دبلوماسية ومصالح اقتصادية ، كما ظلت عضوا في حلف النيتو ، وقرعت ابواب الدخول للاتحاد الاوروبي بكل قوتها دون جدوى، ومع ذلك تركيا ايقونة كيزان السودان والقبلة المحببة لنفوسهم بمن فيهم عبد الحي يوسف ويرفعون اردوغان فوق رؤوسهم كرمز اسلامي في ذات الوقت الذي يكفرون ويشتمون من يطالب بعلمانية الدولة في السودان؟ فهل اردوغان منافق في علمانيته؟ ام الكيزان منافقون في اسلاميتهم؟ ام ان الامر ” حقارة” بالسياسيين السودانيين لانهم وضعوا انفسهم في حالة قابلية للحقارة بسبب عدم وضوح الرؤية في القضايا الاستراتيجية وبسبب غياب الجرأة والتصدي الحاسم لابتزاز هذه العصابة الكيزانية المجرمة وتقليم مخالبها مبكرا انتصارا لوحدة البلاد وتماسكها.