السودان بين فوضى الأزمات وضياع الأسئلة الكبرى
د. عبدالمنعم همت
في ظل الأزمات المتلاحقة ينحسر دور الأسئلة الكبرى التي تتعلق بالفكر والمعرفة والتغيير لصالح الاحتياجات اليومية التي تفرضها ضرورات البقاء. يصبح التفكير في لقمة العيش والأمان الشخصي والمأوى أهم من البحث في أسباب الأزمة أو محاولة فهمها. في مثل هذه الأوضاع، تتراجع مكانة المثقف والمفكر، ويعلو صوت الخطاب الشعبوي الذي يعيد تدوير الأفكار السائدة دون مساءلة حقيقية لها.
السودان اليوم مثال حي على هذه الظاهرة. فمنذ اندلاع الصراع في 15 أبريل 2023، باتت الحياة اليومية للسودانيين رهينة العنف والنزوح وانعدام الأمن الغذائي والاقتصادي. في مثل هذه الظروف يجد المواطن نفسه مضطرًا إلى التركيز على تفاصيل النجاة، بينما تُدفن الأسئلة العميقة حول مستقبل الدولة والمجتمع تحت أنقاض الخراب اليومي.
ليست الأزمات مجرد نتيجة طبيعية لسوء الإدارة أو الخلافات السياسية، بل هي في الكثير من الأحيان أداة تُستخدم لإعادة تشكيل وعي الجماهير. حينما تصبح الأولويات محصورة في الطعام والدواء والمأوى، يسهل تحويل المجتمع إلى كتلة متلقية تُستلب إرادتها، وتُفرض عليها أنماط تفكير استهلاكية تعادي المعرفة والنقد.
في السودان لم يكن الانحدار نحو الفكر الاستهلاكي العابر مجرد صدفة. فطوال العقود الماضية عمدت الأنظمة الحاكمة، وخاصة نظام الإسلاميين، إلى تفريغ المجال العام من الأصوات النقدية، وتوظيف الدين والسياسة لخنق أي محاولة جادة لإعادة بناء الوعي الوطني. هذا التلاعب بالوعي لم يكن عبر القمع المباشر فقط، بل أيضًا عبر إغراق المجتمع في أزمات متكررة تمنعه من التفكير بعيدًا عن همومه اليومية.
طوال العقود الماضية عمدت الأنظمة الحاكمة، وخاصة نظام الإسلاميين، إلى تفريغ المجال العام من الأصوات النقدية.
واحدة من أخطر نتائج هذه الأزمات هي بروز الخطاب الشعبوي كمهيمن على المشهد الفكري والسياسي. في مثل هذه الأوضاع، يتم استبدال التفكير العقلاني والعلمي بالشعارات العاطفية التي تؤطر الواقع في ثنائيات مبسطة: خائن ووطني، عميل وثائر، إسلامي وعلماني.
هذا الخطاب لا يسمح بطرح أسئلة جذرية حول أصل الأزمة وطبيعة القوى المتصارعة، بل يفرض إجابات جاهزة لا تحتمل النقد. أي محاولة للخروج عن هذا الإطار تواجه بالتخوين أو العزل أو حتى القمع العنيف. وبهذا، يصبح المثقف محاصرًا، لا يجد مساحة لممارسة دوره الطبيعي في طرح الأسئلة الصعبة وكشف تعقيدات المشهد.
أمام هذا الواقع يجد المفكرون والمثقفون أنفسهم في موقف صعب. فمن جهة، لا يتوفر لهم المجال لطرح أفكارهم، ومن جهة أخرى يتعرضون للمضايقات أو التهميش أو حتى التهديد المباشر. لهذا يلجأ الكثيرون إلى الهجرة، ليس فقط بحثًا عن الأمان، بل بحثًا عن فضاء يحترم الفكر ويمنحهم الحد الأدنى من حرية التعبير.
لكن هذه الهجرة ليست مجرد حركة فردية، بل هي جزء من أزمة أكبر. حينما يُفرَغ السودان من عقول مفكريه، يخسر المجتمع أداة أساسية لفهم مشكلاته وإيجاد الحلول لها. فالأفكار التي كان يمكن أن تسهم في إعادة بناء الدولة تظل محاصرة في المنافي، بينما يترك المجال داخل البلاد للخطاب العاطفي والشعبوي الذي يخدم أجندات القوى المهيمنة.
إذا كان الوضع الحالي نتاجًا لسياسات متعمدة لتجهيل المجتمع وتدمير قدرته على التفكير النقدي، فإن الحل لا يمكن أن يكون مجرد استجابة عاطفية أو سياسية لحظية. نحتاج إلى إعادة النظر في طبيعة الأزمة السودانية، ليس فقط كصراع على السلطة، بل كنتاج لعلاقات اجتماعية وسياسية واقتصادية معقدة.
هناك حاجة ملحة لفهم طبيعة المجتمع السوداني بعمق، بعيدًا عن التنميط والتبسيط. ما هي العوامل التي تجعل المجتمع عرضة لهذا النوع من التلاعب؟ كيف تؤثر العلاقات القبلية والاقتصادية والثقافية في تشكيل وعي الجماهير؟ وما هي الأدوات الممكنة لاستعادة المساحة الفكرية المغيّبة؟.
المرحلة القادمة تتطلب جهدًا فكريًا ضخمًا لتفكيك المنظومة التي كرست التجهيل والاستلاب الفكري. لا يمكن أن يكون الحل مجرد تغيير سياسي، بل يجب أن يكون تغييرًا جذريًا في طريقة تفكير المجتمع ونظرته لنفسه.
استعادة دور الفكر في المجال العام ضرورة لا بد منها، حيث يجب أن يُعاد الاعتبار للمفكرين والمثقفين كأصحاب دور أساسي في إعادة بناء السودان. وهذا يتطلب خلق فضاءات جديدة للنقاش الحر، سواء داخل السودان أو عبر المنصات الإعلامية والفكرية في الخارج.
المرحلة القادمة تتطلب جهدًا فكريًا ضخمًا لتفكيك المنظومة التي كرست التجهيل والاستلاب الفكري. لا يمكن أن يكون الحل مجرد تغيير سياسي التعليم يجب أن يكون أداة للتحرر لا وسيلة لإعادة إنتاج الجهل. واحدة من أكبر أدوات التلاعب بالوعي كانت تدمير التعليم وإفراغه من مضمونه النقدي، وأي مشروع لإعادة بناء السودان يجب أن يضع التعليم في مقدمة أولوياته.
لا بد من مواجهة الخطاب الذي يعتمد على الشعارات والتصنيفات المبسطة، عبر تقديم بدائل فكرية عميقة تُساعد الناس على فهم تعقيدات الواقع. تفكيك الخطاب الشعبوي ليس ترفًا، بل هو ضرورة لضمان أن يكون المجتمع قادرًا على فهم أزماته الحقيقية، لا أن يُقاد وفق أجندات تفرضها القوى المسيطرة.
إعادة بناء الثقة بين الفكر والمجتمع تتطلب جهدًا طويل الأمد، حيث هناك فجوة كبيرة بين المفكرين والجماهير، ناتجة عن عقود من التلاعب والتضليل. يجب العمل على استعادة هذه العلاقة عبر تقديم فكر يرتبط مباشرة بقضايا الناس وهمومهم، دون الوقوع في فخ الخطاب الشعبوي.
السودان يعيش واحدة من أعقد أزماته، لكن الخروج من هذا المأزق لا يمكن أن يكون بمجرد حلول سطحية أو تغييرات سياسية جزئية. ما نحتاجه هو مشروع فكري شامل يعيد قراءة الأزمة، ويفكك جذورها، ويطرح بدائل حقيقية للخروج منها.
إن المعركة الحقيقية ليست مجرد صراع سياسي، بل هي معركة وعي. والخيار اليوم أمام السودانيين هو: إما الاستمرار في دائرة الأزمات التي تُفرض عليهم، أو الشروع في مشروع فكري وسياسي جديد يعيد الاعتبار للسودان كدولة تستحق أن تُبنى على أسس الفكر والمعرفة، لا على أنقاض الجهل والاستبداد.
العرب