Site icon صحيفة الصيحة

وزير الخارجية: الرشاقة الكتلت إشراقة وصعق لافروف

وزير الخارجية: الرشاقة الكتلت إشراقة وصعق لافروف

عمار نجم الدين

كانت تلك أول مرة أرى فيها وزير الخارجية السوداني علي يوسف الشريف، ولم يطمئن قلبي لذلك الرجل الأشتر. بدلة غير متناسقة، ربطة عنق كأنها وُضعت في عتمة، وإلى جانبه خالد الأعيسر في مشهد بدأ أقرب لاجتماع على عجل في ردهة منزلهم و ليسوا في مقر حكومي .

منذ اللحظة الأولى، شعرت أنني أمام رجل لا يدرك موقعه تمامًا، ولم يخيّب ظني.

في المؤتمر الصحفي الذي عقده أمس مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، بدا وزير الخارجية السوداني، الدكتور علي يوسف الشريف، وكأنه يعلن انتصارًا دبلوماسيًا مذهلًا وإذا لم يعلن الخبر ان الصفقة سوف تضيع، إذ قال أمام الكاميرات بكل ثقة: “لقد توصلنا إلى تفاهم متبادل بشأن القاعدة البحرية. لقد اتفقنا. اتفقنا على كل شيء.”

لكن اللافت أن لافروف لم يذكر شيئًا عن هذه القاعدة، بل ركّز حديثه على أهمية إنهاء العمليات العسكرية وإطلاق حوار وطني شامل، في إشارة واضحة إلى أن موسكو تفضّل إبقاء هذا الملف خلف الكواليس، بعيدًا عن الضجيج الإعلامي، خاصة في ظل الوضع الإقليمي المتوتر. فهل تعي حكومة بورتسودان ما يعنيه هذا؟ أم أنها تلهث وراء اتفاقيات لا تملك مقومات تنفيذها؟.

السودان اليوم يعيش حالة من الفوضى الشاملة، المدن تتحول إلى أنقاض، والمعارك مستعرة بين الجيش وقوات الدعم السريع، بينما تزداد التدخلات الإقليمية والدولية تعقيدًا. ومع ذلك، تُقدم حكومة بورتسودان، التي لا تحظى باعتراف الأمم المتحدة أو الاتحاد الإفريقي باعتبارها حكومة انقلابية، على توقيع اتفاق استراتيجي يمس سيادة البلاد، دون تفويض شعبي أو مؤسسي حقيقي. كيف يمكن لحكومة لا تسيطر حتى على عاصمتها أن تمنح قوة أجنبية موطئ قدم في أحد أهم الممرات البحرية في العالم؟.

منذ 2017، تسعى موسكو إلى تثبيت حضورها العسكري في البحر الأحمر، حيث تدرك أن هذا الممر يمثل محورًا استراتيجيًا في الصراع الدولي على النفوذ البحري. إقامة قاعدة في بورتسودان تمنحها قدرة أكبر على مواجهة الولايات المتحدة وحلف الناتو، وتعزز علاقاتها العسكرية مع السودان مقابل دعم سياسي وعسكري، وتمكّنها من استخدام البلاد كنقطة عبور للأسلحة والتكنولوجيا إلى حلفائها في الشرق الأوسط وإفريقيا. كما أنها تضع موسكو في موقع يمكنها من منافسة القواعد الأمريكية والفرنسية في جيبوتي، وهو ما قد يفاقم التوتر بين القوى الكبرى في المنطقة.

لكن السؤال الأهم: هل تدرك حكومة بورتسودان حجم المخاطرة؟ منح روسيا قاعدة عسكرية على البحر الأحمر ليس مجرد اتفاق أمني، بل خطوة قد تجر السودان إلى مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة وحلفائها الخليجيين. واشنطن لن تتسامح مع وجود روسي دائم في هذا الممر، وقد عبّرت صراحة عن رفضها لأي محاولة لتعزيز النفوذ الروسي في إفريقيا. دول الخليج، وعلى رأسها السعودية والإمارات، تعتبر البحر الأحمر منطقة حيوية لأمنها القومي ولن تقبل بوجود روسي قد يمهد لتحالفات عسكرية مع إيران والحوثيين. حتى إسرائيل تراقب الأمر بقلق، فوجود قاعدة روسية في السودان قد يوفر غطاءً لتمرير أسلحة متطورة إلى حلفاء موسكو في المنطقة، ويؤثر على حرية تحركاتها البحرية.

وفي ظل كل هذه التعقيدات، يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا: ماذا يستفيد السودان من هذه الصفقة؟ بلد يعاني من انهيار اقتصادي، ومنقسم بين حرب أهلية وتناحر سياسي، لا يملك رفاهية الانحياز في الصراعات الكبرى. لكن حكومة بورتسودان، التي بالكاد تدير شؤونها اليومية، تتصرف وكأنها تقرر مصير السودان لعقود قادمة، بينما هي في الواقع مجرد واجهة سياسية هشة تحاول البقاء في السلطة بأي ثمن، حتى لو كان ذلك على حساب سيادة السودان واستقراره.

الصفقة الروسية ليست مجرد مقامرة، بل رهنٌ لمصير البلاد لقوى أجنبية في وقتٍ لا تملك فيه الحكومة حتى شرعية اتخاذ قرارات بهذا الحجم. موسكو لن تخسر شيئًا، بينما السودان قد يجد نفسه في عزلة سياسية وعسكرية واقتصادية، مرتهنًا لصراعات لا يملك أي نفوذ عليها. حكومة بورتسودان لا تفكر أبعد من بقائها في السلطة بضعة أشهر أخرى، حتى لو كان ذلك على حساب السودان كله.

Exit mobile version