جيش السودان: تاريخ من العمالة والارتزاق
![](https://i0.wp.com/www.assayha.net/wp-content/uploads/2025/02/%D8%B9%D9%85%D8%A7%D8%A7%D8%A7%D8%B1.jpg?resize=303%2C318&ssl=1)
جيش السودان: تاريخ من العمالة والارتزاق
عمار نجم الدين
منذ أن خرج السودان من الاستعمار المباشر، لم تكن المؤسسة العسكرية سوى امتداد لمنظومة الهيمنة التي واصلت قمع الشعوب واستغلال موارد البلاد لصالح قلة حاكمة. لم يكن الجيش السوداني جيشاً وطنياً يعبر عن مصالح مواطنيه، بل أداة طيعة في يد المركز المتسلط، يمارس القمع داخلياً عبر تفتيت النسيج الاجتماعي وإنشاء مليشيات عرقية متصارعة، بينما يتحول خارجياً إلى جيش مرتزق يخوض الحروب بالوكالة لمن يدفع أكثر.
لم يكن هذا النهج حديث العهد، بل هو نمط مترسخ منذ عقود، حيث استخدمت المؤسسة العسكرية السودانية كأداة لإدامة الحكم الاستبدادي، ووسيلة لإجهاض أي تحرك نحو العدالة والتنمية المتوازنة. مصر، التي ظلت تعتبر السودان جزءاً من مجالها الحيوي منذ فترة الاستعمار الثنائي، لعبت دوراً حاسماً في تثبيت العسكر في السلطة، دعمت كافة الانقلابات منذ استقلال السودان، وساعدت في ترسيخ الحكم العسكري من خلال نفوذها السياسي والدبلوماسي. فخلال انقلاب 1958، كان الدعم المصري واضحاً لعبود، كما دعمت انقلاب نميري في 1969، وانقلاب البشير في 1989، وكلها أنظمة جعلت الجيش أداة لمصالح إقليمية ودولية، لا وسيلة لحماية الشعب السوداني.
وبعد ثورة ديسمبر 2018، استمر هذا الدور المصري في تكريس سلطة العسكر، حيث استخدمت القاهرة نفوذها داخل الاتحاد الإفريقي لمنع أي قرارات قد تعجل بانتقال السلطة إلى المدنيين، وضغطت سياسياً لضمان بقاء المكون العسكري ممسكاً بزمام الأمور. الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي جاء عبر انقلاب عسكري، كان من أشد الداعمين لاستمرار الجيش السوداني في السلطة، حرصاً على إبقاء السودان في دائرة النفوذ المصري، ومنع قيام نموذج ديمقراطي قد يهدد نظامه. وبعد اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، لم يكن خافياً استمرار الدعم المصري للجيش، سواء عبر إمداد الذخائر والأسلحة، أو من خلال وجود ضباط مصريين في قاعدة مروي الجوية، وهو ما كشف حجم التدخل المصري المباشر في الشأن السوداني.
لم يكن الارتزاق العسكري مقتصراً على الداخل فقط، بل أصبح الجيش السوداني واحداً من أكثر الجيوش مشاركة في الحروب الإقليمية كقوة مرتزقة مأجورة. فخلال الحرب في اليمن، تحولت القوات السودانية إلى مقاتلين بالأجر، يُرسلون بالقطعة والنفر والرأس، في خدمة التحالف السعودي-الإماراتي. لم يكن للسودان أي مصلحة استراتيجية في هذه الحرب، لكن الأموال التي تدفقت على القيادة العسكرية جعلتها تبيع جنودها كسلع في سوق الحروب الإقليمية. ولم يكن هذا المشهد جديداً، فقد تكرر في ليبيا، حيث قاتلت القوات السودانية لصالح طرفي الصراع الليبي، وفقاً لمن يدفع أكثر، سواء كان خليفة حفتر أو الحكومة في طرابلس، مما جعل السودان طرفاً في صراع لا يخدم مصالحه بأي شكل.
ورغم الخطاب المعادي للغرب وإسرائيل الذي يتبناه العسكريون في العلن، لم تتوقف العلاقة الخفية التي تربط المؤسسة العسكرية السودانية بالقوى الدولية، حيث ظلت بعض أجنحتها تتلقى دعماً مالياً وسياسياً في مقابل خدمات استخباراتية وصفقات مشبوهة. لم يكن الأمر مجرد تكهنات، بل وثّقت تقارير دولية هذه الروابط، التي أظهرت أن بعض العسكريين السودانيين كانوا أكثر ولاءً للمصالح الإقليمية والدولية من التزامهم بأي مشروع وطني يخدم السودان.
في ظل هذا التاريخ الطويل من العمالة، يصبح من السخرية أن تحاول بعض الجهات العسكرية والموالين لها تزييف الحقائق وتصوير أي دعوة لوقف الحرب أو مواجهة عسكرة الدولة على أنها عمالة أو خيانة. فالتاريخ واضح، والأدلة أكثر من أن يتم طمسها؛ الجيش الذي قاتل بالأجرة في اليمن، والذي باع نفسه في ليبيا، والذي ظل لعقود أداة في يد القوى الخارجية، لا يمكن أن يدّعي الوطنية، ولا يمكن أن يحتكر تعريف الانتماء للوطن.
إن السودان يحتاج إلى جيش يعبر عن شعبه، لا مؤسسة تعمل كأداة قمع داخلي وتجارة دم خارجي. فالتاريخ لن يرحم، والحقيقة، مهما حاول البعض طمسها، تظل واضحة: من جعل الجيش أداة للارتزاق ليس هو من يرفض الحرب، بل من تاجر بدماء السودانيين لعقود طويلة.