زيارةٌ ترتكِز على الماضي والمستقبل..
قبل التعليق على الزيارة المُهمّة وفي هذا التوقيت المحسوب بدقة، للسيد هايكوماس وزير الخارجية الألماني للبلاد، فإنّا نلحظ أنه منذ فترة طويلة جداً لم تتغيّر أو تتبدّل المواقِف الألمانية الرسمية تجاه السودان، ولم تتّسِم بالتشنُّج أو العداء الظاهر في أعقد الفترات وأدقِّها كما كانت تفعل شقيقاتها الأوروبيات، وانتهجت برلين سياسة مُتعقّلة مُتّزنة ومُتوازِنة تجاه الخرطوم، ولم تشتط أبداً في التزاماتها بالموقف الأوروبي المُوحّد الذي تصنعه سياسات الاتحاد الأوروبي الخارجية، وحافظت على مسافة معقولة ما بين رؤيتها وتعاطيها الخاص مع قضايا السودان، وبين حِدّة الموقف الأوروبي في بعض الأحيان خاصة فيه عهد الإنقاذ، وفي الفترات التي تزايدت فيها حدة الحروب الداخلية في جنوب السودان قبل انفصاله، وفي دارفور ومنطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، بل كانت السياسة الرسمية الألمانية مُنفتحة على كل الأطراف المُختلفة بالسودان، وأسهمت بشكل وافِر في تقريب وجهات نظر السودانيين وعقدت عشرات اللقاءات والاجتماعات والمفاوضات خلال العشرين سنة الماضية وقبلها، بين أطراف سودانية تحت رعاية ألمانية لإنهاء الحروب وتحقيق سلام عادل ومستدام .
نعود إلى زيارة الوزير الألماني، فهي تتم في وقتٍ حدَث فيه تحوّل وتغيير كبير في السودان، سينعكس على علاقات الخرطوم مع الأسرة الدولية إيجابياً في المرحلة الراهنة، وتنظُر ألمانيا إلى السودان كما فُهم من سياقات تعامُلاتها وتصريحات مسؤوليها، أنه صديق ودولة مُهّمة في هذا الجزء من القارة السمراء ولديها معه روابط سياسية وتاريخية وثقافية متينة، لم تغِب عنه منذ عقود من نهاية الخمسينات من القرن الماضي. ويُشار هنا إلى أن ألمانيا تخلّصت من أي إرث استعماري في القارة الأفريقية، وليست لديها توابِع سياسية ولسانية كما حال “الفرانكوفونية” و”الأنجلوفونية” التي تقاسَمت أفريقيا وبلدانها المُستعمَرة، ولا توجد رواسب قديمة بين الشعوب الأفريقية وألمانيا، وتميّزت العلاقات وِفقاً لهذه الحقائق على التعاون الثنائي وتقديم المساعدات والعون الفني والمجالات المعرفية والعلمية والثقافية.
ولا يمكن الحديث عن مصالح اقتصادية أو سياسية محددة تربط ألمانيا بالسودان أو غيره من الدول الأفريقية كما هو الحال مع دول غربية أخرى .
ونذكُر هنا أن الفترة التي شهدت الحرب في جنوب السودان حتى انتهت باتفاقية نيفاشا واندلاع أزمة دارفور، ظلت المُساعدات والتفاهُمات مُتواصِلة ومُستمرّة ، وبعد انفصال جنوب السودان تمّ التعامُل بشكلٍ متساوٍ بين شطري السودان، وحافظت برلين على تقديم دعمها غير العسكري للطرفين وتقديم النصح لتجاوز القضايا العالِقة وصناعة سلام بين السودانيْن الجاريْن .
لنرَ إذن ما وجد الوزير هايكو ماس في الخرطوم التي لم تتكون حكومتها بعد، ولم تلتقط أنفاسها من ماراثون سياسي طويل بين لاعبي اللعبة؟ إذ من الضروري أن تلعب ألمانيا دورها كما قال عميد الدبلوماسية الألمانية في إعادة السودان إلى الأسرة الدولية ومساعدته في تجاوُز صعوباته الاقتصادية ودفع عملية السلام وتشجيعها، وإزالة كل ما يعوق تفاعل السودان من جديد مع المنظمات المالية الدولية والأوروبية ورفع العقوبات عن كاهله وشطبه من قوائم الدول الداعمة للإرهاب وتذليل حصوله على ما يستحق من مِنَح وقروض ودعم اقتصادي دولي .
إذا كانت ألمانيا حريصة على علاقاتها مع السودان وبادرت هذه المبادرة الكبيرة بزيارة وزير خارجيتها للخرطوم، فإن السودان لديه نفس الحرص على ترقية وتطوير علاقاته مع دولة غربية كبرى لها تأثيرها في المجال الدولي، وهي أقرب اقتصاد أوروبي، ومنطقة نشاط سياسي وتجاري وثقافي وعلمي مرموق في عالمنا..
فمرحباً بهذه الزيارة التي يجب أن تعقُبها خطوات عملية بنَّاءة حتى تصل هذه العلاقة والصداقة ذات الجذر العميق إلى غاياتها ..