“الصيحة” مع منكوبي السيول بود رملي وواوسي
(2800) أسرة بلا مأوى
سبعة حمامات فقط لاستخدام (5.800) شخص
تردٍّ بيئي بالمخيمات وظهور حالات إسهالات مائية..
مواطنون: خسائرنا لا تقدر بثمن .. وخرجنا بما نلبسه فقط
مواطن فقد عقله بعد أن جرفت السيول منه (6) مليارات جنيه
تحقيق: نجدة بشارة
يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، بعضهم جالس القرفصاء تراهم يمدون أبصارهم على امتداد الأفق فـ(فيرتد عليهم خاسئاً وهو حسير)، وحينما يحاصرهم الضياع ينكفئون على ذواتهم، ويمتهنون الصبر، هكذا تبدلت أحوال منكوبي الفيضانات بالريف الشمالي بين ليلة وضحاها…. أخبرني محدثي بأن هنالك ما يقارب (6) آلاف شخص من نساء لأطفال وشباب وشيب لـ (2.400) أسرة من منطقة ودرملي وحوالي (370) أسرة من قرية واوسي وعدد لم يحص بعد من المواطنين من قرية النخيل انهارت منازلهم ولم ينقذوا من متاعهم سوى القليل .. قال لي أحدهم فاجأنا (السيل) والشمس تهم ببزوغ فجر جديد، كانت المياه تهدر من كل صوب ،وصرخات الاستغاثة تنطلق من كل فج (يااااابوا مروه)،هرولنا بالاتجاه المعاكس، وكان ناحية الشارع الرئيسي الذي يربط الخرطوم بولايات الشمال الجغرافي، وجدنا آلاف الأسر قد سبقتنا إلى هنالك، جلسنا على الأرض ننتظر عناية الله ولسان حالنا :(يقول كلنا في الهم شرقا)
خسائر فادحة:
قابلنا المواطنون بالمخيمات بترحاب شديد وبشاشة أخفت ملامح الأسى والمعاناة، كان الوقت يقترب من العصر وجدنا النساء هناك يجلسن على (فرشات بلاستيك) أمام الخيام التي نصبت بلا انتظام والتي علمنا لاحقاً بأن (سبع إلى عشر أسر يتراوح عدد الأفراد ما لا يقل عن (45) فرداً يتقاسمون خيمة واحدة بمساحة (3×3) أمتار وبداخلها بعض المفارش التي لا تعصمهم من تراب الأرض ولا (هوامها) من العقارب والثعابين.
أخبرني رئيس لجنة خدمات واوسي غرب محمد عبد القادر بأن الفيضانات التي اجتاحت قرية واوسي الشمالي قضت على حوالي (400) منزل وأبيدت مساحات واسعة من المزارع والمحاصيل، والبساتين ،سألته عن حجم الخسائر فلم تمهله المواطنة فاطمة البشرى ليرد على إجابتني فقالت: خسائرنا لاتقدر بثمن، نحن الآن نبدأ حياتنا من الصفر، وأردفت خرجنا من منازلنا بملابسنا فقط، وكل ما نحتاج إليه الآن ليس الطعام أو الشراب وإنما (المأوى)، لاحظت في ركن قصي بإحدى الخيم كانت تجلس إحداهن وقد بلغت من الكبر (عتيا)، وكانت تتمتم بكلمات بالكاد تخرج من بين شفتيها .. ألقيت عليها السلام فردت دون اكتراث لي ….(كان لنا بيتاً) … ثم أشاحت بوجهها عني تركتها وعدت والأسئلة تحاصر مخيلتي.
تردٍّ بيئي كارثي:
سألت عن المشكلات الصحية؟ وقد لاحظت انتشار الذباب بكثافة… فحدثتني اللجنة الطبية المكونة من د. عبد الرازق محمد والمساعد الطبي مهدي تاج السر، والممرضة آمنة جبارة بأن الوضع الصحي ما زال آمناً عدا بعض حالات الإسهالات المائية، والملاريا نسبة لانتشار البعوض، إلا أن آمنة لم تخف عنا مخاوفها، فقالت: نتوقع نذر كارثة صحية نسبة لأن هنالك حوالي (7) حمامات فقط ويستخدمها ما يقارب الـ (5.800) شخص بالمخيم، كما أن انتشار الذباب في حد ذاته كارثه تنذر بالانفجار في أي وقت، هذا بالإضافة للبيئة الصحية المتردية وانتشار القمامة، فيما أكد د. عبد الرازق محمد أن هنالك وحدة صحية جاهزة والأدوية الأولية متوفرة .
ممارسات سالبة
سألت أحد أفراد الشرطة ــ فضل حجب اسمه ـ إذا كانت هنالك أي ظواهر أو ممارسات سالبة، فقال إن هنالك مشاجرات كثيرة تنشب بين الحين والآخر، معظمها بسبب تغول البعض على المؤن الخاصة بأسر أخرى، بالإضافة لوجود بعض التفلتات الأمنية، وأردف لكن يتم تداركها، بينما كانت عربة الدفار التي تحمل مواد القافلة تسلم المؤن اقتربت مني إحداهن وخاطبتني كان حرياً بالمنظمة أن تسلم هذه المواد للمواطن مباشرة، لأن بعض المواد لم تسلم لنا ولا نجد ما نحتاجه، حديثها أثار مخاوفي فذهبت مستفسرة عن رئيس لجنة الخدمات بالمخيم فتحدثت إلى لؤي علي الأمين عن طريقة توزيع المواد التي تأتي للمخيم وهل صحيح أن بعضها لا يذهب للمواطن، وتتغول عليها جهات تنتمي للجان المشرفة فقادني مباشرة للمطبخ وهو عباره عن مبنى قديم أظنه لمعسكر، كان بالداخل أفراد يصنعون الطعام وآخرون يقومون بتوزيعه، فقال :هنا يتم تحويل المؤن الغذائية وتطبخ ثم تسلم في الوجبات للمواطنين المقيدين في السجلات ،وبسؤاله إذا كان هنالك نقص بالمواد الغذائية أجاب بالنفي، ألا أنه أكد وجود نقص في الخيم بحوالي50%
نقص الإيواء
سألت بعض الأسر من المتواجدين تحت الأشجار وفي العراء عن احتياجاتهم الفعلية فقالوا: نحتاج للخيم والمفارش والمشمعات، ومواد الإنارة لأن المخيم يكون غارقاً بالليل في الظلام، وهنالك أسر تتواجد تحت الأشجار وأخرى تتشارك سبع أو أكثر من أسرة تضم أي واحدة خمسة إلى سبعة أفراد يتشاركون خيمة واحدة، فيما ينتشر الآخرون تحت أشعة الشمس الحارقة والأشجار، وقالوا إن الأمطار من أكبر مخاوفهم الآن.
ضحايا ولكن !
أكد لؤي عدم وجود وفيات وسط المنكوبين، رغم خطورة ما مروا به…. ولكن وسط المخيم نظرت إليه قال المواطن عبد السلام (54 عاماً) “منزلي تهدم بالكامل. عشت طوال حياتي في قريتي بود رملي، ولم أشهد فيضاناً بهذا المستوى. والآن، أكافح للتعرف على مكان منزلي بعد أن جرفته المياه علماً بأن البعض يتعرفون على منازلهم من الأشجار التي ما زالت منتصبة، وقال تركنا أوراقنا الثبوتية وهوياتنا، وأوراق تعليم أبنائنا ولا نعرف ماذا يحمله لنا المستقبل، وهناك لمحته حافي القدمين يمشي، مرقع الجلباب وممزق الفؤاد، يمضي بلا هدى ، أشار إليه البعض فقالوا انهار منزله على أمواله التي كان يدخرها (6) مليارات في لحظات، ففقد أمواله وفقد معها عقله، وآخر كان يجلس متكئاً على عصا عليل القلب والجسم فالخسارة لم تلحق بمنزله ومقتنياته فقط وإنما امتدت الى جسده العليل فداهمه المرض لتكتمل معه فصول المأساة، وهذه نماذج كثيرة لحكايات سمعنا عنها وبعضها شاهدناه، ومع ذلك يظل هنالك الكثير من المآسي التي تنتظر من يرويها.
إضاءة:
هبت كثير من الجهات لمساندة هولاء المنكوبين لتقدم لهم يد العون، وكانت هناك لفتة بارعة من منظمة الريحان لطريق الجنان تجسدت فيها كل معاني التكاتف والتراحم فقد سيرت قافلة حوت مواد غذائية وإيوائية للمتضررين فكان لهذه الزيارة الأثر الطيب في نفوس الضحايا.