“الجوع والحرب” عقوبتان على ثورة الشعب؟!

“الجوع والحرب” عقوبتان على ثورة الشعب؟!

الجميل الفاضل

استبقت حكومة الأمر الواقع في بورتسودان، صدور التقرير نصف السنوي عن حالة المجاعة في السودان، بتعليق مشاركتها في نظام عالمي لرصد الجوع معروف باسم “نظام التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي”، وكان وزير الزراعة المكلف قد اتهم التصنيف “بإصدار تقارير غير موثوقة تقوض سيادة السودان وكرامته”.

وفي تقريره نصف السنوي الذي صدر بالفعل الثلاثاء الماضي، قال المرصد إن نطاق المجاعة في السودان اتسع إلى (5) مناطق، وإنه من المرجح أن يمتد ليشمل (5) مناطق أخرى بحلول مايو القادم.

المهم فالحرب والجوع في السودان، وجھان لعملة واحدة، إذ متي اندلعت حرب في هذه البلاد، حل معھا الجوع، بل ربما أضحي ھو من أشد أسلحتھا فتكا وضراوة.

فالتاريخ السوداني قد شھد بضع مجاعات أشھرھا ما عرف بمجاعة “سنة ستة”،

تلك المجاعة التي حصدت أرواح مئات الآلاف من السكان والماشية في السودان بسبب انخراط معظم المزارعين والرعاة في الأعمال القتالية بحروب المهدية.

ليترتب على مجاعة “سنة ستة” التي حلت بالبلاد أثناء فترة حكم الخليفة عبد الله التعايشي، فضلاً عن موت الآلاف من الناس، انتشار واسع للأوبئة والأمراض، إضافة لهلاك للماشية وللمحاصيل الزراعية، إلى جانب انتشار الجرائم والاضطرابات الاجتماعية، وحدوث موجات هائلة من النزوح والهجرات.

لتصبح كل هذه الأثار عوامل إضافية ساهمت في سقوط الدولة المهدية.

بمثلما أن المجاعة الثانية التي وقعت في “سنة 84”، قد جاءت إثر تجدد حرب الجنوب في العام (83)، لتوثر بتداعياتها في زوال حكم الرئيس الأسبق جعفر نميري، الذي فيما يبدو قد أعيته الحيلة في مواجھة أثار تلك المجاعة الكارثية، التي لم يجد أمامها بدا من الرضوخ لشروط الإدارة الأمريكية التي أملاها على النميري “بوش الأب” الذي يعتقد بأنه من أهم الشخصيات الأمريكية التي ساهمت مباشرة في صياغة متغيرات الأحداث علي الساحة السودانية في ثمانينيات القرن الماضي، من خلال زيارته المثيرة للجدل التي قام بها للخرطوم في يناير 1985م بوصفه نائباً لرئيس الولايات المتحدة حينها رونالد ريجان، والتي جاءت بعد أقل من عامين على إعلان الرئيس جعفر نميري تطبيق قوانين سبتمبر، وبالطبع في غضون الآثار المترتبة علي موجة الجفاف التي ضربت أنحاء متفرقة من السودان وإثيوبيا في وقت واحد.

وتعتبر زيارة بوش الأب الذي يعد أرفع مسؤول أمريكي يزور الخرطوم منذ ذلك التاريخ والي يومنا هذا، بأنها قد مهدت السبيل لإطاحة حكم الرئيس نميري عبر انتفاضة شعبية حدثت في إبريل من ذات العام، من خلال اجتماعات سرية جمعت نائب الرئيس الامريكي آنذاك بقادة المعارضة السياسية للنظام بمقر سفارة واشنطن بالخرطوم، فضلاً عن اجتماع آخر بأساتذة جامعة الخرطوم الرحم التي خرجت منها ثورة اكتوبر التي أطاحت بحكم الجنرال عبود في العام 1964م.

وتقول مصادر متطابقة أن بوش الأب طالب النميري أثناء الزيارة بالاعتدال وعدم الجنوح للتطرف، وباحترام مبادئ حقوق الإنسان الدولية.

وبدأ كأن زيارة نائب ريجان قد كتبت بالفعل الفصل الأخير لشهر العسل بين نظام نميري والإسلاميين، إذ تقول تلك المصادر: أنه قبل أيام قلائل من مغادرة النميري في رحلته الأخيرة لواشنطن في السادس والعشرين من مارس ١٩٨٥ بثت الإذاعة السودانية مارشات عسكرية أعلن بعدها نميري ايفاءا بتعهداته لبوش ختام علاقته الملتبسة مع تنظيم الحركة الاسلامية، ليعقب ذلك مباشرة في التاسع من مارس حملة اعتقالات واسعة طالت أغلب رموز الحركة ومن بينهم بعض شاغلي الوظائف الدستورية.

ويقول الكاتب اليكس دي وال في مقال بعنوان: “العار الذي لا يزول، ميراث نكران المجاعات”: “في عام 1992، في ذروة مشروع الإسلام السياسي الراديكالي في السودان، حين كان أفراد من جماعات مثل القاعدة و”حماس” يتجمعون في الخرطوم، شنَّت جماعة الإخوان المسلمين حملة سمتها “الجهاد” في جبال النوبة، حيث أعلنوا أن سكان المنطقة، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو من أتباع الديانات التقليدية، كفار يجب قتلهم أو إجبارهم على التحول إلى الإسلام.

وبحجب تام للأخبار، رافق المجاهدون الجيش النظامي وبدأوا في اعتقال الأهالي، ونقلهم إلى معسكرات بعيدًا عن موطنهم، بهدف تحويلهم إلى رعايا إسلاميين بالقوة.

لكن من قلب هذا الظلام، وقف أهل المدن السودانية بجانب هؤلاء النازحين الجوعى والمعدمين، ورفضوا أن يظلوا صامتين أمام معاناتهم.

حيث تعاونت شبكات الدعم غير الرسمية لتكسر جدار السرية الذي حاول النظام فرضه، مما ساهم في تقويض عزيمة السلطة في تنفيذ حملة إبادة جماعية عبر التجويع.

واليوم، نجد أملًا يتجدد من خلال حركة مجتمعية تناضل لإطعام الجائعين وكسر حواجز الإنكار، حتى في ظل ظروف أكثر تعقيدًا.

وتمثل “غرف الاستجابة الطارئة المحلية”، تلك الفرق التطوعية التي تعمل بلا كلل من أجل تقديم المعونة، نقطة الضوء الوحيدة وسط الظلام المتسع الذي يحيط بالسودان”.

ومضي دي وال الي القول: “بدأت الحرب الحالية في نيسان/أبريل 2023، حيث دارت المواجهة بين القوات المسلحة السودانية، وقوات الدعم السريع.

خلّفت هذه الحرب مجاعة، ليس فقط بسبب حجم الدمار الذي تسببت فيه الاشتباكات، ولكن أيضًا لأن طرف يستخدم التجويع كسلاح، وإن كان بطرق مختلفة”.

على أية حال أتصور أن محاولات بورتسودان إنكار وجود مجاعة بالبلاد، يعتبر بمثابة إنزال عقوبة ثانية بعد عقوبة الحرب، على الشعب الذي ثار ضد نظام الاسلام السياسي بالسودان.

بل إن عقوبة الجوع ربما تكون هي العقوبة الأقسي حتى من عقوبة الحرب نفسها.

إذ يقول عالم الاجتماع الروسي بيتريم سوروكين: “أن الجوع الجماعي الحاد لا يدمر النسيج الاجتماعي فحسب، بل يقسو على النفوس ويجردها من إنسانيتها.

فكل وفاة في تلك المجاعات كانت مأساة بحد ذاتها، لكن المجاعة ليست مجرد مجموعة من المآسي الفردية، بل إنها أداة تدمير اجتماعي هائل”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى