طائر شؤم دارفور
طائر شؤم دارفور
إسماعيل عبد الله
روى الرواة أن شيخاً رأى شاباً أسمراً تعود جذوره لقبيلة النوير، مجتمعاً بشباب صحراويين في دار زغاوة يبشرهم بمشروع للتمرد، بدار السلام (تيمناً بالعهود الطيبة التي عاش فيها سكانها في أمن وطمأنينة)، تحت ظل حكم سلاطين الفور الأمناء العدول لقرونو، رووا أن ذلك الشيخ الجليل قدم نصحاً للشباب الذين تحلقوا حول الرجل النحيل الطويل القامة المحمر العينين، فقال: لو اتبعتم ذا العينين الحمراوين سوف تفنوا عن آخركم، وقد صدقت رؤية الرجل الكبير، فمنذ أن حط طائر الشؤم على أرض الحركة المتمردة التي أسسها عبد الله أبكر الذي قتل في الحرب، والذي يكتنف ملابسات مقتله الغموض، ويلفها الصمت المريب من الرفاق، كسر الطائر المشؤوم نصل القتال، وشق صف المقاتلين لنصفين، كل قبيلة لها نصفها، فدخل بالنصف الذي يقوده في شراكة مع رأس النظام – مجرم الحرب المطلوب للعدالة الدولية، وصار ساعداً أيمناً ليد الدكتاتور الذي يفاخر باغتصاب حرائر دارفور، ففضّل رمز الشؤم أن يكون مجرّد فلقناي على بساط ملك المملكة الوارثة لعرش سمسار الرقيق الزبير باشا رحمة، قاتل السلطان إبراهيم قرض بسبب إجارته لثلاث من الرزيقات الملاحقين من بازنقر السمسار العميل لمصر الخديوية، دخل المشؤوم قصر حفيد الزبير باشا طائعاً مختاراً، راضياً بأن يكون خادماً للطاغية في إبادة أهله وعشيرته، صامتاً عن أفظع جريمة قتل جماعي بحق جنوده الجرحى والمرضى بحي المهندسين – أمدرمان، الجريمة التي كسرت آخر شوكة من رجولة الرجل، الذي ملأ أسماع وأبصار الدنيا بتحديه لجيش الدولة المركزية، تلك الحادثة أرغمت أنف الأسمر الذي تتدفق عيناه شرراً، ودجنته وأهانت كرامته ومرّغت أنفه بالتراب، فخرج من بهو القصر مغاضباً ثم عاد بعد ثورة ديسمبر القاضية على الطاغية، دون ان يستلهم العبر، فسار على درب الملك المنزوع الملك وتآمر على العهد الجديد.
حينما غادر طائر الشؤم سماء جوبا هابطاً بمطار الخرطوم، مبشراً بصفقة سلام مريب عقدت تحت الطاولة، فرح الأهالي بدارفور وصدّقوه، ورقص المواطنون رقصتهم الحبيبة (أم ردس) احتفاءً به، وتنازلوا عن كبريائهم وحقهم في مقاضاته بجريمة قتله لأكثر من ثلاثة آلاف من المواطنين، بقرى ومدن “برام” “ونتيقة” و”أبو عجورة” و”تلس” و”قريضة” و”ام دافوق” و”مهاجرية” و”شعيرية” و”غرابش” و”تعايشة”، ورهنوا كامل الإقليم لسيادته دون اعتبار للمكونات الأخرى، وما دروا أن الأفعى لا تبدل جلدها ولا تجعل من سمها الناقع عسلاً معسولا، فجاءت الخيانة الكبرى بالحنث بقسم الولاء للفتى البدوي الذي كساه بعد عري، وأطعمه الطعام بعد جوع، وأحياه من بعد ممات، ووجه بندقيته تجاه الصدور التي أخرجته من الخرطوم سالماً غانماً عندما حمي الوطيس، وما أن طاب به المقام في دارفور زرع أرضها بالألغام بدلاً عن غرس الأشجار، وعجز عن (تحليل) أموال الارتزاق المدفوعة من فلول النظام البائد، فأتم الخطيئة بالزحف الآثم على بوادي الذين وضعوا في فمه ملاعق الذهب، فهجم على نسائهم وأطفالهم ليلاً خوفاً من مواجهة الفرسان صباحاً فهرب فجراً، لعلمه التام بما سيؤول إليه مصير جنوده المستأسدين على النساء، فبفعلته الجبانة تلك كتب طائر الشؤم على نفسه السقوط الأبدي، ذلك بأن أرض دارفور قد لفظته، وخدّامه “فلاقنة” المستعمرين القديم والحديث سيتخلون عنه لا محال، لعدم كفاءته في انجاز مهمة دحر الأشاوس، وسوف تطارده اللعنات وتصاحبه هواجس الأرواح التي أزهقها من المدنيين العزّل، فمثله لابد وأن ينتهي كنهاية السفّاحين الممتلئة أشداقهم بلحوم الآدميين ودماء البشر، فهو نبت شيطاني غريب في مجتمعات عاشت لقرون تحت مظلة حكم لا يؤمن بسفك الدماء، ولا يتخذ من العمالة طريقاً لنيل شرف الملك والسلطان.
إنّ مكنسة الأشاوس ماضية في كنس أوساخ الظلم وسوء الحكمين المركزي والإقليمي، وماسحة للساسة والحكام المرتشين والمرتزقة شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، ودارفور ستكون الأرض الأولى بالسودان الشاهدة على إخراج آخر الخاسئين من الفلول والمرتزقة، وهي بلا شك أول المحتفلين بنزع آخر لغم (سلاح الجبناء)، وطرد آخر مندس وسط النساء البائسات بخيام النزوح، فأرض السلاطين ما عاد بمقدورها احتواء أراذل قومها من المفسدين الذين يسفكون الدماء ويستحيون النساء، وليست مرحبة بالذين فتحوها ماخوراً لإشباع نزوات ذوي الغرائز الشاذة من الطامعين، فبالهزائم المتتالية التي تلقاها رمز الشؤم والخيبة والانكسار، سوف تبنى البلاد الطيب أهلها بالتسامح والتعايش السلمي، وستزال النخبة المنحرفة المؤسسة لعصابات النهب المسلح، والفاتحة للحدود الغربية للتهريب والتجارة غير المشروعة، والمضللة للشباب والدافعة بهم للانخراط في صفوف مليشيات الارتزاق بدول الجوار، فبكنس طائر الشؤم وجنده الظالمين تكون دارفور قد استبانت طريق الرشاد، وطوت آخر صفحات الموت المجاني الذي أسهمت فيه المليشيا القبلية منذ ثمانينات القرن الماضي، لقد فقدت (دار السلام) البوصلة منذ تلك الأزمنة التي انتشرت فيها عصابات النهب المسلح (الحركات المسلحة)، فلا هي حققت مطلباً ولا أبقت الدار في حالها الآمن والمستقر، فبعد قرن من الزمان تعود أرض السلام للحرية والاستقلال بدحر آخر طائر للشؤم جثم على صدرها.