السودان: تسعة وستون عاماً من غياب المشروع الوطني.. حرب 15 أبريل آخر تجليات الأزمة
حذيفة أبونوبة
بانتهاء يوم التاسع عشر من ديسمبر، الذي شهد ميلاد ثورة ديسمبر المجيدة، نكون قد طوينا 69 عاماً منذ خروج المستعمِر الإنجليزي-المصري من السودان، بعد أن أمضى أكثر من نصف قرن محتلاً للأرض، حاكماً لشعوبها، وممارساً أقسى أشكال القمع والإخضاع. بالطبع، لم يكن السودان الدولة الوحيدة التي وطأها المستعمِر الأجنبي وعاث فيها فساداً وقتلاً وخراباً، لكنه ربما كان الوحيد الذي لم يخرج من تلك التجربة قط، ولم يتعلم منها. بل على العكس، غرق أكثر فأكثر في مستنقع أزماته الداخلية، حيث تفجرت الصراعات السودانية-السودانية العنيفة، حتى قبل أن يغادر المحتل تراب الوطن. هذه الصراعات السياسية والاجتماعية تأججت بفعل ذهنية الهيمنة والانفراد بالقرار السياسي، والشعور المتعاظم بالاستحقاق، لدى النخب المحلية، تلك التي ورثت امتيازات الحكم عن المستعمِر الغازي.
منذ أن تولت النخبة السياسية السودانية قيادة جهاز الدولة في أعقاب الاستقلال، افتقرت إلى رؤية جامعة لمشروع وطني شامل، يعكس تنوع السودان العرقي والجغرافي، ويؤسس لإدارة موضوعية وعادلة للخلاف، وتوزيع منصف للسلطة والثروة. لم يتوفر الحد الأدنى من الإرادة السياسية لصياغة عقد اجتماعي يُمكِّن السودانيين من تجاوز أزماتهم البنيوية. فعندما جرى “توطين الوظائف وسودنتها” بعد مغادرة المستعمِر، حصل المواطنون من جنوب السودان على ست وظائف فقط من أصل 880 وظيفة إدارية. تلك السياسات لم تكن مجرد غفلة عابرة، بل تمثل انعكاساً لذهنية إقصائية متجذرة، جعلت من السودان وطنًا لبعض مواطنيه دون غيرهم.
منذ الاستقلال، فشلت النخبة السودانية في بناء مشروع وطني جامع، متشبثة بعقلية الهيمنة والإقصاء التي أهملت قضايا التنوع والعدالة. أدى ذلك إلى إهدار لحظات مفصلية وحاسمة في تاريخ السودان، مثل فشل مؤتمر جوبا 1947 وانتهاءً بانفصال الجنوب عام 2011. اعتمدت الدولة المركزية كذلك نهجاً عقيمًا في إدارة الصراعات، حيث أبرمت أكثر من 46 اتفاقية سلام مع التجمعات والحركات المطلبية التي حملت السلاح في أطراف البلاد منذ الاستقلال، هذه الاتفاقات لم تحقق عدالة ولم تجلب سلام، لأنها لم تعالج جذور الأزمات وافتقرت للإرادة السياسية، بل كرّست لإنتاج المزيد من الحروب والتهميش وزيادة حدة العنف. تمسَّكت النخبة بعقلية الوصاية والإقصاء، مما عمّق أزمة الهوية الوطنية وأجّج التوترات، حيث لجأت المجموعات المهمشة إلى التمرد والثورة بحثاً عن العدالة. هذا الفشل الممنهج لم يكتفِ بتفكيك البلاد فحسب، بل وضعها في دوامة من الحروب والصراعات دون حلول حقيقية.
إن غياب المشروع الوطني لا يمكن فهمه من خلال الشعارات الفضفاضة، والهتاف السياسي المكرر، بل هو الغياب المتعمد وانعدام الإرادة في الإجابة على الأسئلة الكبرى التي واجهت السودانيين منذ الاستقلال:
– ما هي هوية الدولة السودانية؟
– كيف يُدار التنوّع الثقافي والإثني؟
– ماهو نظام الحكم الأمثل للسودان؟
– كيف يُحكم السودان؟
– كيف تُوزّع السلطة والموارد بعدالة؟
– كيفية صناعة دستور دائم وآليات حمايته؟
هذه التساؤلات والقضايا مجتمعة، والتي تمثل جوهر المشروع الوطني المفقود، لم تُطرح للنقاش بجدية على مدار العقود الماضية، من أجل الوصول إلى مشتركات أو توافقات حولها، بل جرى تجاهلها لصالح تكريس امتيازات فئة بعينها. هذا التجاهل هو الذي ولّد شعوراً عميقاً بالغبن لدى غالبية سكان الريف السوداني، الذين عانوا من الاستبعاد والتغريب. فمنذ تمرد توريت عام 1955 وحتى اليوم، ظلّت الأطراف السودانية بؤراً للصراع المسلح، الذي بدأ في جنوب السودان، وامتد إلى جنوب كردفان، والنيل الأزرق، ودارفور، ليصل أخيراً إلى مركز السلطة في الخرطوم.
إن حرب الخامس عشر من أبريل المستعرة الآن، التي أشعل شرارتها سدنة الدولة القديمة، وفي مقدمتهم الحركة الإسلامية، في قلب العاصمة الخرطوم، لم تكن حدثاً معزولاً عن السياق التاريخي للصراع في السودان، بل تمثل تجلياً صارخاً لأعقد وأعمق مظاهر هذا الصراع. هذه الحرب تعكس الصدام التاريخي بين القوى التقليدية المسيطرة، التي سعت لعقود إلى تكريس هيمنتها عبر الجيش وبقية مؤسسات الدولة، وبين قوى جديدة تشكلت من خارج دوائر نادي النخبة الحاكمة تاريخياً.
في هذا السياق، تمثل قوات الدعم السريع، التي تصدت بكل جسارة وشجاعة لمخطط قوى الاسلام السياسي الراديكالي المدعوم بالجيش في صبيحة 15 أبريل، قوة استثنائية في المشهد السوداني. فهي ليست مجرد فصيل عسكري، بل هي انعكاس اجتماعي وثقافي لأكبر تجمع لسكان الريف ومجتمعاته المهملة تاريخياً، التي طالما استُخدمت كأدوات لقمع تطلعات السودانيون وثوراتهم، مقابل وعود زائفة وفتات من السلطة والثروة، وجدت المجتمعات المحرومة والمبعدة في الدعم السريع تعبيراً صادقاً عن قضاياها وتطلعاتها، للانعتاق من الهيمنة المركزية .
لا شك أن قوات الدعم السريع وقيادتها قد دفعت ثمناً باهظاً لموقفها الواضح والحاسم في دعم التحول المدني الديمقراطي ومواجهة مشاريع إعادة إنتاج الدولة القديمة. فحرب أبريل، التي خاضتها القوات أولاً دفاعاً عن النفس وعن الموقف، سرعان ما تحولت بفعل ديناميات الصراع ومساراته إلى مواجهة استراتيجية أوسع. قدمت من خلالها قوات الدعم السريع رؤية جريئة وشاملة لإنهاء الحرب ووضع حد نهائي لدورات العنف التي ميزت تاريخ الدولة السودانية. هذه الرؤية لا تقتصر على وقف الحرب فقط، بل تسعى إلى إنهائها، عبر التأسيس لدولة جديدة؛ مدنية، ديمقراطية، فيدرالية، وعادلة، تقوم على التوافق الوطني الحقيقي، وتعالج المشكلة السودانية من جذورها بدلاً من الالتفاف عليها.
إن مشروع الدعم السريع ليس مجرد مبادرة سياسية أو عسكرية، بل هو طرح وطني طموح يرمي إلى معالجة التشوهات البنيوية التي خلّفتها عقود من الاستبداد والتهميش، وهو في جوهره محاولة لتغيير مسار الدولة السودانية نحو السلام العادل والاستقرار.
إن استمرار السودان كدولة موحدة ومزدهرة يعتمد على الجرأة في مواجهة أزماته المتجذرة لعقود طويلة. وهذا يتطلب إرادة سياسية وشعبية للتدبر في مآسي الماضي والحاضر التي حوَّلت السودانيون إلى قتلى ومفقودين ولاجئين ونازحين، وتحويلها إلى فرصة لبناء مشروع وطني جديد ينهض على:
– عدالة توزيع السلطة والموارد الاقتصادية.
– تجريم العنصرية والانقلابات العسكرية.
– تعزيز التحول المدني الديمقراطي.
– صناعة دستور دائم باجماع شعبي واسع.
لقد دفع السودانيون ثمناً باهظاً لغياب المشروع الوطني طوال العقود الماضية. وما لم يتحرك الشعب السوداني ويتحرر من الخوف، لاجبار النخبة على القيام بمسؤولياتها وتدارك الأمر، فإن مستقبل البلاد سيظل رهينة لدوراتٍ لا تنتهي من العنف والتفكك. إن حرب 15 أبريل يمكنها أن تكون آخر الحروب إذا ما توفرت الارادة اللازمة لمعالجة مسبباتها، واستخلاص الدروس منها، لتأسيس دولة جديدة تقوم على العدالة والمساواة واحترام التنوع.
“من رحم الألم يولد الأمل… ومن رماد الخراب قد يُبنى الوطن.”