الرقص على أنقاض الوطن!

الرقص على أنقاض الوطن!

عبد الرحمن الكلس

لجميع تيارات الفكر السياسي والفلسفي في العالم مدارس وروّاد، حتى تلك التي وُصفت بالفوضوية (الأناركية)، تجد أن أفكارها منتظمة ومصاغة بكفاءة وإحكام، ولها مفكرون مرموقون في الأوساط الفكرية والأكاديمية. فالأناركية (الفوضوية) تنشر أفكارها من خلال التعبير السلمي ولا تستخدم الوسائل العنيفة. وهي حركة فكرية غير إجرامية تمارس نشاطها وفق القوانين السائدة، لا كما يبدو من اسمها للوهلة الأولى.

ما يحدث في السودان الآن يجعلك في حيرة من أمرك، حيث أصبح الجميع يتساءل: ما المغزى من نصب اللافتات التي تحمل صور بعض قادة الجيش وتغيير أسماء الشوارع بأسماء “الكيزان” وقادة مليشياتهم؟ ويتساءلون أيضًا: هل يمكن أن نطلق على الجسم الذي يدير النطاق الذي يسيطر عليه الجيش في السودان اسم “حكومة”؟ ثم يأتي السؤال المركزي والمحوري: من هو الذي يفكر لأمراء الحرب هؤلاء؟

بالأمس، بلغت الأمور ذروتها وبلغ سيل التخبط الزبى، عندما دشن المكلف بمهام وزير إعلام حكومة بورتسودان (لافتة) تم نصبها في أحد شوارع المدينة، تحمل صور أعضاء مجلس (سيادة) البرهان، ونظّم احتفالًا جماهيريًا بمنصة خطابية. فأضحك علينا أمم وشعوب العالم، وأصبح الإعيسر في وقت قياسي نجم أراجوزات ساحل البحر الأحمر من وزراء حكومة البرهان.

ما حدث أمس فاق الفوضوية التي لا تؤمن بوجود حكومة وتسعى لخلق مجتمع لا تحكمه السلطة، وإنما يُحكم بالتعاقد بين أفراده. أما المدرسة التي يحكم بها البرهان وحاشيته تلك الجغرافيا المحدودة من البلاد، فهي بجانب نزوعها نحو العنف المميت – بعبارة البرهان نفسه – تتجه إلى احتكار السلطة في يد فرد واحد يُخضع الجميع دون تعاقد أو اتفاق. لذا، يحق لنا أن نطلق عليها مصطلح المدرسة “التلطيخية”، حيث تُبنى سياساتها وخططها العامة كيفما اتفق. حتى إنه يمكن أن تضع برنامجًا سياسيًا لإدارة العلاقات الخارجية على شتائم يطلقها أحد الناشطين المؤيدين للبرهان على وسائل التواصل الاجتماعي. كذلك، تصدر نيابتها العامة نشرات باعتقال سياسيين وإعلاميين مناوئين لها، بناءً على توجيه من شخص مجهول يُطلق على نفسه اسم (الانصرافي). هذا الشخص يتحدث في الدين والسياسة والعسكرية، ويوجه العمليات الحربية، ويفصل الضباط، ويفعل ما يشاء، رغم جهله الفاضح وغبائه الذي لا يخفى على أحد.

لكن دعكم من هذا النكرة، وتعالوا إلى وزير الإعلام المكلف، الذي دشن لافتة الصور أمس في بورتسودان. فهذا الاعيسر هو رائد المدرسة التلطيخية التي تنتج الأفكار لحكومة الأمر الواقع في بورتسودان. وهو أحد أراجوزات الإعلام الذين تستضيفهم الفضائيات العربية لإكساب برامجها الإخبارية نوعًا من المرح، وحقنها ببعض العشوائية والتهريج حتى لا يمل المشاهد من التحليلات السياسية والإخبارية المحكمة التي يقدمها الخبراء والأكاديميون. فتأتي بالإعيسر – رائد الفوضوية الإعلامية – باعتباره “قرد السيرك”، لتُضحك به “ربات الخدور البواكيا”. فينخرط في فاصل من النحيب والنشيج والصراخ والعويل والتهريج والانفعال والتوتر، ليحوّل نشرة الأخبار إلى فوضى عارمة تكفي لحماية القناة من “عين الحُسّاد” ربما.

هذا الإعيسر – رائد التلطيخية – جيء به مكلفًا بأعباء إعلام حكومة الفوضى، فحقق في ذلك رقمًا قياسيًا من الإنجازات في وقت قياسي أيضًا. ومن يره جالسًا على الشارع في بورتسودان، بربطة عنق حمراء، وحوله نساء محجبات وعسكريون بزيهم الرسمي، وخلفه أطفال يمرحون ويرقصون احتفاءً بلافتة تحمل صور أعضاء مجلس السيادة غير المعترف به من أي أحد سوى أعضائه، سيدرك أن هذا الرجل يتمتع بقدر كبير من المرح الطفولي المحبب. فهو يمارس تلطيخ سمعة بلادنا بكل أريحية، دون أن يدري أنه يفعل ذلك – يا لبراءته وحسن نيته! ويا لحظ البرهان وحكومته به، فقد وجدوا أخيرًا من يخلّد ذكراهم النتنة على لافتة رديئة في شارع من مدينة ما يزال سكانها يحلمون بقطرة ماء تروي ظمأهم، وومضة كهرباء تنير لهم ظلام الطريق!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى