سلطة بورتسودان ومسار التفتيت الوطني الثاني

سلطة بورتسودان ومسار التفتيت الوطني الثاني
عمار نجم الدين
حكومة بورتسودان بقيادة عبد الفتاح البرهان أصبحت رمزًا لتكريس الانقسام في السودان، حيث اتخذت سياسات تؤدي بشكل مباشر إلى تفتيت البلاد جغرافيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. سيطرتها تقتصر فعليًا على عشر ولايات فقط، وخطوة طباعة عملة جديدة وعملة قديمة في مناطق الدعم السريع يعني وجود عملتين في دولة واحدة يُكرّس الانقسام الاقتصادي، حيث تفقد الحكومة المركزية السيطرة على النشاط المالي في المناطق الخارجة عن نفوذها. سياسيًا، يعكس هذا الوضع ضعف الدولة ويُعزز الانفصال، إذ تصبح المناطق الأخرى كيانات شبه مستقلة بإدارتها الاقتصادية الخاصة و قد تلجأ لبديل آخر في التداول. ما يعكس ضعف الدولة سياسيًا ويدفع نحو مزيد من الانفصال.
التعليم، الذي كان أحد رموز وحدة السودان، أصبح بدوره انعكاسًا لهذا الانقسام. امتحانات الشهادة السودانية، التي كانت تجمع الطلاب من كل أنحاء البلاد، شهدت هذا العام تقدم أكثر من ستين بالمائة من الطلاب لها في مناطق خارج سيطرة حكومة بورتسودان، ما يعكس انعدام حضور الدولة في معظم السودان. في الوقت ذاته، لجأت الحكومة إلى سياسات قمعية عنيفة ضد معارضيها، بما في ذلك الطرد الجماعي والتصفية الجسدية في المدن المختلفة بدعوى التعاون مع أطراف أخرى، مما يجعل تحقيق التوافق الوطني شبه مستحيل.
سياسات الحرب التي تعتمدها حكومة بورتسودان تُعزز من حالة الفوضى بدلًا من السعي لتحقيق أي نوع من الوحدة. عبر عسكرة الصراع وغياب أي رؤية سياسية شاملة، فقدت الحكومة المركزية شرعيتها أمام قطاعات واسعة من السودانيين، مما جعل مسار التقسيم أمرًا متوقعًا، يعيد إنتاج سيناريو انفصال جنوب السودان، ولكن هذه المرة بشكل أوسع وأعمق.
في ظل هذه الأزمة، يبرز مشروع وطني شامل كخيار حقيقي لإعادة بناء السودان على أسس جديدة تُجنب البلاد مصير التفكك. هذا المشروع، الذي يركز على الوحدة الطوعية والعدالة الاجتماعية، أصبح اليوم مطلبًا شعبيًا وأساسًا لخطاب القوى السياسية التي تؤمن بضرورة التغيير الجذري. هذه الرؤية تقوم على تفكيك بنى التهميش المركزية، وإعادة توزيع السلطة والثروة بشكل عادل، بحيث تُصبح الدولة قادرة على استيعاب التنوع الثقافي والإثني للسودان بدلًا من استخدامه كأداة للصراع.
السياسات التي تتبعها حكومة بورتسودان تُكرّس واقعًا يجعل من السودان كيانًا ممزقًا، حيث تُترك مساحات واسعة لتُدار بمعزل عن الدولة المركزية. استمرار هذه السياسات يعني أن التقسيم لن يكون مؤقتًا بل سيتحول إلى واقع دائم يعيد رسم خريطة السودان ويُفاقم من معاناة شعبه.
إعلان حكومة وحدة وطنية، معترف بها دوليًا، يمثل خطوة حاسمة لنزع الشرعية عن حكومة بورتسودان. وفق القانون الدولي، يمكن لهذه الحكومة الجديدة المطالبة بإعلان مناطق آمنة (Safe Zones) محمية دوليًا، وفرض حظر طيران (No-Fly Zone) لضمان حماية المدنيين وفرض سيادتها على كامل التراب الوطني. هذه الخطوة ليست مجرد إجراء قانوني، بل هي أيضًا أمل جديد في إعادة بناء دولة موحدة تسعى لتحقيق العدالة والمواطنة المتساوية.
رغم الظلام الذي يحيط بمشهد السودان الحالي، فإن بناء مشروع وطني شامل يُمكن أن يُعيد للبلاد تماسكها. هذا المشروع، القائم على أسس المواطنة والعدالة، يُعد الخيار الوحيد للخروج من مسار التفتيت الذي تقوده حكومة بورتسودان. السودان اليوم أمام خيارين: إما السير في طريق التقسيم الذي أصبح حقيقة تتجذر يومًا بعد يوم، أو العودة إلى مسار الوحدة الطوعية الذي يمكن أن يُنقذ البلاد من مصير مظلم يهدد وجودها.