كونفدرالية البواب (عصمان).. أو الاحتلال المصري الناعم للسودان!

كونفدرالية البواب (عصمان).. أو الاحتلال المصري الناعم للسودان!

عبد الرحمن الكلس

ظلت السينما المصرية تعمل بشكل متواصل منذ استقلال السودان على استتفاه السودانيين، والحط من أقدارهم وتصغيرهم، عبر وضعهم الدائم في دور البواب “عثمان”، أو “عصمان”، ومرات “أوسمان”. وليس لديّ مشكلة في تغيير العين إلى الألف في الأخيرة، فبعضنا ينطقها هكذا، كما ينطقها “الخواجات” الذين هم، مثل غالبية أهل بلادنا، ليسوا عرباً. ولكن مشكلتي تكمن في اختزال السينما والدراما المصرية عامة لشخصية السوداني في صورة البواب الجاهل الساذج.

وحقيقة لم يعد هذا الأمر يضايقني بعد وصول الكيزان إلى السلطة، وظهور عهد العبيد المصريين الحقيقي، وبروز (عصمانات) كثر، منهم الصحفي عثمان ميرغني!

أمس، اقترح البواب عثمان ميرغني، وهو في حالة غيبوبة جراء فرحته الكبيرة بزيارة سيده وزير خارجية مصر إلى بورتسودان، وكأنها حدث استثنائي وتشريف للبلاد ليس بعده تشريف، اقترح في عموده (حديث المدينة) أمس بصحيفة التيار، ما أطلق عليها وسماها بـ”كونفدرالية النيل” بين السودان ومصر— “واخد بالك معايا يا زول”!!

واضح جداً أن البواب عثمان سيفشل في تسويق فكرته الخبيثة لأنه لا يقرأ سوى تاريخ البوابين وبنفسية البوابين، ونفسية البواب مقهورة، تحمل دونية واضطرابات نفسية شديدة التأثير على الصحة العقلية، بحيث تؤثر على الإدراك وتشوش الرؤية. لذلك، لم ينتبه ويأخذ في الاعتبار، وهو في مرحلة خداعنا والتسويق للاستعمار الناعم الجديد، إلى أن الجمهورية العربية المتحدة التي نشأت بين مصر وسوريا في فبراير 1958م، سرعان ما ضربتها عواصف الخلافات، وأصبحت كقشة في مهب الريح إلى أن ماتت سريرياً في سبتمبر 1961.

وفي عام 1958 نفسه، أطلق العراق والأردن ما يسمى بالاتحاد العربي الهاشمي، وتم حله بعد أربعة أشهر فقط من تأسيسه. وفي مطلع سبتمبر 1971، أعلنت حكومات مصر وسوريا وليبيا عبر استفتاءات شعبية متزامنة عن وحدة ثلاثية لم يُنفذ منها بند واحد، حتى وضعت في مزبلة التاريخ عقب اتفاق كامب ديفيد. لكن أغرب وحدة عربية قريبة لفكرة (عصماننا) كانت بين ليبيا وتونس عام 1974، وانتهت بعد 24 ساعة، عندما تراجع عنها الحبيب بورقيبة بسبب شكوكه تجاه القذافي، فما الذي يجعل كونفدرالية “عصمان” تنجح دون قوات تحميها و”جيشنا” لا تزال تطارده قوات “قجة” و”جلحة” في فيافي الفاو؟!

هذا التاريخ نضعه أمام مقترح (كونفدرالية النيل)، ونضع أمامه أيضاً أن اتفاق الحريات الأربع بين السودان ومصر أصابته الأخيرة في مقتل مع أول زخة رصاص أطلقها الكيزان في سماء الخرطوم في 15 أبريل 2023، وصار السودانيون اللاجئون إلى مصر من حرب بلادهم يُرحَّلون عبر جرارات المواشي، ويُرمى بهم في البرية بلا (موسى) أو برهان!

ولا نحتاج—طبعاً—إلى تذكير “عصماننا” بـ(حلايب وشلاتين) المحتلتين.

لقد فشلت جميع الاتفاقيات بين البلدين، بما فيها اتفاقيات عادية مثل اتفاقية الأمن الغذائي التي تم توقيعها عام 2011، ولم يُنفذ منها بند واحد. بل إن اتفاقية تقاسم مياه النيل، التي تعتبر أهم الاتفاقيات في تاريخ البلدين، أعطت مصر—بجانب الفيتو على الاتفاقية نفسها—55.5 مليار متر مكعب، فيما منحت السودان 18.5 مليار متر مكعب فقط، بما يشبه “عطية مزين”، بل وسرقة سلفتنا المائية المستمرة حتى الآن(!). كما أن الجميع يعلم أن مصر ما تزال تنظر إلى السودان على أنه تابع لها. وهنا ينتفي مبدأ الندية، وبالتالي فلا (كونفدرالية) ستنجح، ولا اتفاقيات تجارية واقتصادية، ولا حريات أربع، ولا من يحزنون. هذا حرث في بحر، وتيه وضلال. وما يحلم به الشعب السوداني هو أن تقوم علاقات سليمة وسلمية وجيدة ومتكافئة بينه وبين جميع دول جواره، إلى أن يحدث تحول ديمقراطي واستقرار اقتصادي وأمني، وتنفتح الحدود وحركة التجارة والبشر. ثم، بعد عقود من ذلك، يمكن أن تُطرح للشعوب مثل هذه القضايا الكبرى فتقول رأيها.

قال ميرغني في وصف كونفيدراليته، إنها “رابطة إطارية تسمح للمؤسسات في البلدين بتعظيم العائد عليهما في سياق بناء شراكات منتجة لمختلف القطاعات”، وكأن الرجل يعيش في جزيرة معزولة، وينتح أفكاراً مجردة لا ساقين لها. ولا أريد أن أعلق على ادعائه بأن مصر تقف على مسافة واحدة بين الفرقاء السياسيين إبان الحرب السودانية الراهنة. الجميع يعلم أين تقف مصر، ومع من. ولا داعي لتبديد الوقت في ما هو معروف للقاصي والداني. ومن يرى الكيزان يجوبون أرض الكنانة طولاً وعرضاً، يقسم أن مصر يحكمها المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين.

هذا اقتراح مهزوم سيتبدد على الصفحة الأخيرة من النسخة الإلكترونية لصحيفة التيار، وعثمان ميرغني نفسه سينساه قريباً. لكننا كتبنا عنه لنحذر الجميع من مغبة التعامل مع أي مقترحات يتم إنتاجها على طاولات مقاهي عاصمة مصر، حيث تنشأ الأفكار المعزولة عن الواقع، ويكفي انها صدرت لنا “مومياء” تقوم حالياً بأداء مهمة وزير خارجية سلطة الأمر الواقع في بورتسودان.

كل ما سبق إنما هي تجارب تاريخية ناتجة من حسن ظننا، ليس بعثمان—حاشا وكلا—وإنما بحكم ومنطق التاريخ. وأما دعوة هذا البواب الدنيء التي تزامنت مع زيارة وزير الخارجية المصري إلى بورتسودان – ومصر كما هو معروف لا تقيم لإنسان السودان وزناً إلا عندما تحتاج إلى (جغم) موارده -. لذلك، فإن كونفدرالية عثمان ليست سوى مطلب جاء به الوزير المصري. بل إن ذلك على الأرجح هو الحقيقي، والأقرب إلى حقارة وقذارة منطق المشهد الحالي في بورتسودان، وحقارة وقذارة وفساد الصحفي عثمان ميرغني أيضاً.

يبدو أن البرهان وكيزانه سيعودون ببلادنا إلى عهود “السودان للسودانيين”، بعد أن أعادوها حضارياً إلى عهود السلطنة الزرقاء!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى