ارتريا وشرق السودان.. خلفيات التورط في الصراع الدموي الداخلي

ارتريا وشرق السودان.. خلفيات التورط في الصراع الدموي الداخلي

وحدة الشؤون الافريقية، مركز تقدم للسياسات

ملخص ورقة سياسات:

عامل جديد بدأ يظهر في خضم الصراع المسلح في السودان، إذ أعلنت ارتريا عن حشد قواتها المسلحة على الحدود السودانية، وأعاد مراقبون إلى الاذهان المسكوت عنه وهو ادعاء أريتريا بحقها التاريخي في ولاية كسلا شرق السودان، ومع استمرار المعارك بين الدعم السريع والجيش السوداني، تنفتح التقديرات بأن الصراع قد يتطور إلى حرب أهلية واسعة وربما أبعد من ذلك، باحتمالات تقسيم السودان، على أسس قبلية وعرقية.

تضيف التقديريات ان ارتريا ستكون في دائرة الخطر إذا ما تطورت الحرب الأهلية في ولايات شرق السودان، سيكون وقودها القبائل ذات الأصول الارترية من الحباب والبني عامر، وإذا ما فاض الصراع بموجة نزوح كبير نحو ارتريا، فإنه ذلك سيخل بالمعادلة والتوازن الاثني في البلاد، الذي تتحكم به القومية التيغرينية، القاعدة الاجتماعية لنظام أسياس أفورقي والجبهة الشعبية التي تحكم البلاد منفردة منذ الاستقلال عام 1993عن اثيوبيا إلى اليوم.

مع دخول الحرب في السودان عامها الثاني، خرج النظام الارتري عن حياده وفتح معسكرات الجيش للحركات المتحالفة مع الجيش السوداني أو الحركات من الاثنية ذات الأصول الارترية رغم أنه ناصبها العداء منذ حسم القيادة في حركات التحرير الارترية لصالح الجبهة الشعبية بقيادة افورقي، فيما شكل الارتريون في السودان قاعدة جبهة التحرير وجناحها العروبي والمسلم.

ما الذي استجد على نظام اسمرة ليخرج عن الحياد ويعلن تدخله في الأزمة السودانية، في هذه الورقة المختصرة سنحاول القاء الضوء على الخلفية التاريخية التي تلقي بظلالها اليوم على هذا التحول:

– ارتبطت مناطق شرق السودان بالحركة الوطنية الارترية، وتجاوز هذا الارتباط، تشكيل ملامح الهوية في ارتريا وتأجيج صراع حول الهوية السودانية. فقد لعبت قبيلتي الحباب والبني عامر ذات الجذور الارترية من بين المجموعات القبلية التي استوطنت شرق السودان دوراً مهماً في إشعال فكرة الكفاح المسلح من أجل استقلال ارتريا. ومنذ انطلاق الثورة الارترية في ستينات القرن الماضي، باتت مناطق شرق السودان الملاذ الأمن للحركات الثورية في حربها ضد اثيوبيا. وتصدر المسلمون والعروبيون الارتريون حينذاك الدعوة لفكرة الثورة والاستقلال، وان انتصار الثورة وبناء ارتريا المستقلة سيكون السند الرئيس للقبائل البيجاوية في الشرق السوداني، لمواجهة التهميش من قبل مجموعة الخرطوم والشمال النيلي التي استحوذت على مقدرات السلطة والثروة منذ الاستقلال عام 1955، لكن ذيولاً تاريخية حملت تناقضاً بين المكونات ذات الأصول الارترية في السودان، بسبب موقفها القديم من الثورة المهدية والاحتلال الإنجليزي للسودان.

– أصبح شرق السودان مقراً لمقاتلي جبهة التحرير الارترية، وتصدر العمل القيادي فيها شخصيات من ابناء البني عامر الذين استوطنوا السودان هرباً من الحرب في ارتريا بل وبات وطناً بديلاً، خاصة بعد انتقال دفة القيادة في الثورة الارترية للجبهة الشعبية لتحرير ارتريا في العام 1981، بعد هيمنة من ابناء الهضبة المسيحيين على قيادة الثورة.

– هكذا تحولت مناطق شرق السودان إلى قواعد تامين وتدريب عسكري صرف، ولكن لم تعد القضية الارترية تشكل ورقة في ايدي ابناء القبائل الإرترية السودانية يستقوون بها في مواجهة التهميش الداخلي ، وتحول الشرق الى مناطق توازن في القوة بين ابناء الشمال النيلي اصحاب المصلحة في أن يظل الشرق تحت رحمة ساسة الخرطوم وبين أبناء الهضبة الحبشية الذين يريدون ابعاد تأثير القبائل الحدودية على سلطتهم .

– بعد استقلال ارتريا وطي صفحة الخلافات مع نظام الجبهة الإسلامية في الخرطوم، بدأت الحكومة الارترية في توظيف الامتدادات القبلية واحتضان الأراضي السودانية للثورة الارترية في تقوية نفوذها في شرق السودان الذي سيصبح المنفذ التجاري الأهم بالنسبة لإريتريا التي قرر نظامها عدم الانضمام للمنظومة الاقتصادية الدولية والبقاء في الظل، كما وظف في المقام الأول حالة العداء المستتر خلف ما اعتقد أنه مظلات جامعة لمكونات قبلية وفرت الدعم والاسناد للثورة في ارتريا.

تلخصت استراتيجية النظام الارتري في التالي:

أولاً: وقعت الاتفاق الثلاثي مع الحكومة السودانية ومفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة والتي قضت بنزع صفة لاجئ عن الارتريين الذين أقاموا في المعسكرات السودانية طوال فترة الحرب في ارتريا وبهذا أخلت المفوضية الأممية مسؤوليتها عنهم، وذلك في صفقة قبلت بموجبها الحكومة السودانية منحهم جنسيات سودانية، ورأت فيها محاولة لمعادلة كفة قبائل الشرق أمام القبائل القادمة من غرب السودان بعرقياتهم الافريقية المختلفة، ومقابل ذلك تتخلص اسمرة من مكونات عرقية بالمساعدة في توطينهم، خاصة وأنهم في غاليتهم أصحاب خلفيات عروبية وإسلامية تشكل تهديداً لنظام الحكم المستند على عرقية التغرينيا المسيحية.

ثانياً: قامت ارتريا برعاية اتفاق بين الحكومة السودانية وحراك الشرق الذي تبنى مشاركة أكبر للشرق في السياسة السودانية وانهاء التهميش الذي وقع عليه، وكشف هذا الاتفاق عن دعم الحكومة الارترية لاختيار الهدندوة كشريك سوداني لها وابعاد البني عامر من لعب دور في الحياة السياسية للشرق، وتكون بهذا ساعدت توطين المكونات ذات الأصول الارترية في السودان وعملت في ذات الوقت على عزلهم عن الحياة السياسية السودانية.

ثالثاً: أقامت اسمرة وبعلم الحكومة السودانية، بل وبالتنسيق والتعاون معها شبكة ادارت من خلالها حركة تجارية لانسياب البضائع بين البلدين وكذلك التحويلات المالية تقوم بتزويد السوق الارترية بالسلع الاستهلاكية الأساسية كما تدير من خلالها عمليات التحويلات المالية، خاصة مع اشتداد العزلة والمقاطعة والحصار الذي فرض على ارتريا.

الخلاصة:

– مع اقتراب المعارك من شرق السودان، بات النظام الارتري امام خيار صعب، كان يفضل عدم الوصول اليه، فقد راهن دوما على بقاء هيمنة الشماليين على السودان وامتداداً باستمرار السيطرة على شرق السودان بمكوناتها العرقية المعقدة، اعتمد خلالها على علاقاته التاريخية بمكون الهدندوة.

– لكن نظام اسمرة، وجد نفسه مجبراً على إعادة تبديل تحالفاته وتجنيد أبناء قبائل البني عامر والحباب في تأمين نفوذه في منطقة الشرق السوداني ولكنه ولكي يتجاوز التهديد الذي يمكن أن تشكله مثل هذه الخطوة على تأطير الارتريين من ابناء تلك القبائل، اختار للتعبئة والعمل مع مكونات عرقية أخرى في الشرق، الأمر الذي يشكل إضافة تعقيد أخر لطبيعة الأزمة ويكشف عن عجز في القدرة على بلورة رؤية سياسية واضحة تجاه الأزمة السودانية.

– فوضى المقاربة الارترية مردها إلى التاريخ القريب حيث شكل الشرق والنزاع مع قبائله، عاملاً دائماً وحاسماً في سقوط حكام هضبة تيغراي والتأثير الدائم لشرق السودان على الوضع الداخلي في ارتريا بعد الاستقلال، فالخطر الداهم على حكم اسياس افورقي ظل على الدوام مصدره شرق السودان، وليس أي معارضة داخلية أو خارجية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى