نسايم عطبرة الحلوة
بدون زعل
نسايم عطبرة الحلوة
عبد الحفيظ مريود
لعلَّكَ لا تفعل ذلك.. لكنَّ غيرك، الكثيرين منهم، يطربون حدَّ الرّقص، لأنَّ بعضهم قضى نحبه.
كان ذلك في الشّهر الثالث للحرب. ربّما نهاية الشهر الثاني. حين ضربتْ طائرةُ الجيش. ألقتْ عبوّتين في مربع 10 بالحاج يوسف، عصراً. تدافع النّاس إلى الموقعيْن. صادفتُ زميلنا السّابق بمركز الدّراسات الاستراتيجيّة بالخرطوم، أوائل التسعينيات، حسين حسين الشّايقى، من مروي، ومعه زميلنا الصّحفي محمّد عبد الماجد. ترافقنا إلى أحد الموقعيْن. كان هناك الكثير من البكاء، اللغط، الاضطراب. كانت تلك أوّل مرّة يضرب طيران الجيش منطقة الحاج يوسف، تحديداً. لم يكن ثمّة هدف عسكرىّ ههنا. مجرّد بيوتٍ لمواطنين مساكين. ضمن الضحايا كان لاعب كرة قدم شهير، نسبيّاً. عزّينا أهل الضحايا، تجاذبنا الحديث. أعرب حسين عن ضرورة الرّحيل، بعد هذا. وانصرفنا. غادر حسين إلى الولاية الشّماليّة، وظلَّ محمّد عبد الماجد مرابطا. التقيتُه، مرةً ثانية، بسوق 6، قبل أنْ أغادر الحاج يوسف.
شايف كيف؟
حيثُ تقيمُ الآن، وأنتَ تقلّبُ التايملاين، على فيسبوك، أو مواقع أخرى للتّواصل الاجتماعىّ، ستقعُ عيناكَ على خبر، خبريْن، ثلاثاً، عن غاراتٍ جويّة شنّها طيران الجيش على بلدان، أحياء، مستهدفاً (تجمّعات للمليشيا)، مخازن، ارتكازات، وأحياناً (قواعد ضخمة للمليشيا). في حىّ مايو، في سوق ليبيا، في شرق النّيل، محطّة 13، في حلّة كوكو، في الطائف، الرّياض. لكنّك ستجدُ الكثير من أخبار الغارات على مدنٍ بعينها: نيالا، مليط، الكُومَة، الضّعين، مورني، الجنينة، حمرة الشيخ، وبعض مدن وقرى الجزيرة والنّيل الأبيض، نواحي الدّويم.
ستمرُّ على الأخبار كأنّكَ لم تقرأها.
لقد حدثَ ذلك.
حين كان الجيش يفعلُ فعائله المعروفة في جنوب السُّودان، جبال النّوبة، دار زغاوة، أيّام (تمرّد منّاوىّ وخليل إبراهيم). كان يضرب بالبراميل المتفجّرة كرنوى، أمبرو، الطّينة. كنّا نمرُّ – جميعاً، إلّا مَنْ رحم ربّى – على الأخبار تلك، مرور الكرام. لا نلتفتُ إليها. لا تخصّنا. مثلها مثل الموت. لن يكونَ الموت فاجعاً إلّا حين يدخلُ دارك، بيتك. ولن تعرفه حقّاً، إلّا حين يحدث لكَ – شخصيّاً. موتُكَ الشخصىّ هو معرفتك اليقينيّة بالموت. قبل ذلك تكونُ مجرّد تكهّنات.
شايف كيف؟
“الأهداف العسكريّة” التي يستهدفها طيرانُ الجيش، منذ عام ونصف العام، كانت كفيلةً بالقضاء على أعتى جيش في إفريقيا. لكنَّ طلعات الطّيران لا تستهدفُ مواقع عسكريّة.
ذلك واضحٌ.
حين كنتُ – بداية الحرب – أقيم في أبوروف، بأمدرمان، كانتْ طلعات الطّيران كثيفةً إلى حدٍّ مخيف. تتعدّى العشر طلعات في بعض الأحيان. لكنَّ سكّان الأحياء القديمة يعرفون أنَّ بيوتاً هُدِمتْ، أشخاصاً قُتِلوا، لا علاقة لهم بالحرب، إلّا قدرهم الجغرافي. تواجدوا في الزّمان والمكان الخاطئيْن. فيما تكون الأهداف العسكريّة بمنأىً عن رمياتها.
يطربُ الكثيرون لأخبار (صانع الكباب العظيم – لصانع الكفتة – لحفلات الشّواء).
ذلك أنّهم في مأمنٍ منها. فضربُ “ملاقيط غرب إفريقيا” يثلج، و”يشفى صدور قومٍ مؤمنين”.
حسناً…
ثمّة خطيئةٌ ابتدائيّة توجبُ العقاب. وذلك بحسب العلّامة الطباطائى. اشتراطات قبليّة، سابقة. لو لم يعصِ آدم وحواء عليهما السّلام، الأمرَ الأولىّ، لما استحقّا نزولهما من الجنّة. تتعدّد طرائق عصيانكَ، الفردىّ والجمعىّ. قبل سنواتٍ لم يدُرْ في خلد سكّان الخرطوم أنّهم سينزحون. كان النّزوح ظاهرةٌ مثل موت قبيلةٍ من قبائل الهنود الحُمر. لا يوجعُ أحداً، إلّا أنْ يكون قد تدرّج في مراقي الإنسانيّة، وارتقى مُرتقىً عالياً. لكنَّ سكّان الخرطوم نزحوا. مثلما كان ينزحُ الكثير من الجنوبيين، سكّان جبال النّوبة، وبعض أهل دارفور. التواطؤ الصّامت، إقرارٌ بصوابيّة ما يفعله طيرانُ الجيش. وكتائبُه المتوغّلة في جنوب السُّودان، ترتكبُ الفظائعَ تلوَ الأخرى.
شايف كيف؟
كما لم يدُرْ بخلد أحدٍ من سكّان الجزيرة الوادعة، قبل سنوات قليلة، أنّهم سيعانون. سينزحون، سيتمُّ تهجيرهم، سيموت بعضهم برصاص الدّعم السّريع، وآخر بطيران الجيش.
وأنتَ تعدُّ فطوركَ، كما يقولُ محمود درويش، ثمّة أسر كاملة قضى عليها الطّيرانُ في جبرة الشّيخ، في مايو، في الكُومَة، في مليط، نيالا، كبكابيّة، الجنينية، الحصاحيصا، الضّعين، وريفى الدّويم. أنتَ آمنٌ كما يجب أنْ تكون. متواطئٌ بالصّمت. لا يعنيكَ إلّا أنْ ينتصر جيشُكَ لتعودَ تصلحُ حديقةَ بيتك، وتذهب إلى المكتب، أو السّوق. لن تلتفتَ إلى أنَّ ثمّة ما يثقلُ روحَك. مثل تحريضك على الحرب – ابتداءً – وانخراطكَ في تفاهاتها.
ستكونُ عطبرة آمنةً، إلى حينٍ. مثلها مثل دنقلا، كسلا، خشم القربة، بورتسودان، وغيرها. أمانٌ مؤقت. لكنّها ستنقلب، بأمر الاشتراطات الكونيّة، السّثنن، الكارما، ما شئتَ من تفسيراتٍ لتجعلكَ نهباً للهلع، النّزوح، فقدان الأحبّة، الأشلاء الآداميّة التي عليكَ أنْ تتخطّاها، عجِلاً، بحثاً عن منجاتكَ الخاصّة. حين تظنُّ أنكَ ناجٍ.
ما الذي يكلّفكَ لو أنّك وقفتَ لتنظر مليّاً في كلّ شئ؟
لتعتبر..تفهم..تتأنسن، رفضاً للحرب.