مسؤولية مَن؟
حتى اللحظة، لا يُمكن تحميل السيد رئيس الوزراء أوزار التأجيل المُستمر لإعلان الحكومة الانتقالية، فهو يتعامَل مع هذه المسألة وِفق ما ينبغي أن يكون عليه الحال، فهو رئيس وزراء تم ترشيحه من ذات القوى التي تُحاول أن تفرض عليه رأيها وإرادتها، وهو وضعٌ مُختّل للغاية يُجسّد ما تعارَف عليه السودانيون في مثلهم القائل (ريّسوه وتيّسوه)، لكن السيد حمدوك، وهذه من طبيعة الأشياء ومنطقها لم يقبل هذا الوضع مع اتفاقه في الكليات مع قوى الحرية والتغيير، فقد رفض أن تُمرّر عليه قائمة المرشحين وتعامل معها وفق المعايير التي تم الاتفاق عليها مسبقاً أن يكون الوزراءُ من أهل الكفاءة والخبرة والحياد، وأرجع الأكثرية من القائمة وقَبِل بنزرٍ يسيرٍ منها، وهنا تكمن الأزمة، فواضح أن قوى الحرية والتغيير تسعى بكل جهدها نحو السلطة فقط، وتدوس بأرجلها على كل قيمة سياسية وأخلاقية تم إشهارها وإعلانها من قبل، كما تعمل على (التكويش) والتهام كامل الجهاز التنفيذي، دون مراعاة لمعايير الكفاءة والنزاهة والاستقلال عن أي انتماء حزبي وهي المعايير المتفق عليها قبل التوقيع على الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية وتعيين رئيس الوزراء.
فالموقف الراهن يكشف حجم الشقة بين الالتزامات والعهود والمواثيق والقسم المُغلظ والحديث الذي تم تسويقه لعامة الناس كأن قيادات الحرية والتغيير ملائكة في أثواب بشر، وبين المطامع واللهث خلف السلطة والاستوزار وانكشاف الوجه الحقيقي لطلاب الوزارة وعَبَدة الكراسي، فالمصيبة الآن أكبر، إذا كانت قوى الحرية والتغيير بمحض إرادتها قدّمت أشخاصاً وأسماء رفضها بشدة رئيس الوزراء الذي ينتمي إلى هذه المجموعة، فذاك يعني أن خدمة البلاد وانتشالها من أزماتها وحل مشكلاتها وإصلاح اقتصادها وتوفير الخدمات والنهوض بها، هي أمور لا تهتم بها على الإطلاق هذه المجموعة السياسية المُكوّنة من شتيت فكري وسياسي لا هدف له ولا برنامج سوى السلطة وإساءة استخدامها لتحقيق مآرب ذاتية وأغراض سياسية..
فكيف لِمَن يُريد تطوير البلاد، ومعالجة المشكلات وطي صفحات المعاناة والعوز والنقص والقصور، أن يقدم وزراء ليسوا بحجم المرحلة، ولا يملكون أبسط القدرات الفنية والسياسية لإدارة العمل التنفيذي وقيادة الوزارات…؟ وكيف لا تزال وهي تدّعي أنها تعمل لمصلحة الشعب أن تختار من لا كفاءة له ولا دِربة ولا خِبرة، يخالف أي معيار موضوعي تم وضعه لإحكام الاختيار وتجويده وتحسين الأداء الحكومي في كل الوزارات ومرافق الدولة، وجعل الأمل قنديلاً وشُعلة تضيء الدرب في سنوات الفترة الانتقالية..؟
لقد خالفوا الشروط والضوابط التي وضعوها هم بأنفسهم، وسقطوا في أول امتحان، وهو أبسط اختبار، لقد تقاسموا، أو بالأحرى تقاسَمت (شلة) مُتّهمة ومشكوك في نزاهتها وصدقيتها وأمانتها، تقاسمت المواقع الوزارية بينها وتحاصصت الوزارات كأنها تقتسم الأسلاب والأموال المنهوبة، كل يأخذ نصيبه بالمحاصصة لا بالكفاءة، ومن أجل خدمة الوطن العزيز، لقد خانوا أمانة تمثيل الجماهير التي كانت تنتظر منهم أن يقدّموا من أجلها حكومة ذات قيمة علمية ومهنية وفنية رفيعة تقود المرحلة الانتقالية وتضع البلاد في المسار الصحيح.! لقد خانوا الجماهير التي وثقت فيهم، فإذا بالجماهير تكتشف سريعاً أن مجموعة من سماسرة السياسة الجُدُد تحالَفوا مع بعض كهنة الأحزاب الهَرِمة التي تعيش خريف عمرها، تجمّعوا وتنافخوا وتهامَسوا ليفرضوا على رئيس الوزراء الذي أتوا به مُرشّحين أقل قامة من هامة الوزارات ودورها ووظيفتها، وقدموا من هم ليسوا فوق الشبهات، فرفض رئيس الوزراء كثيراً منهم، وأبعد الفحصُ الأمني بعض من سقط في اختبار الكفاءة وحُسن السيرة والسريرة.
صحيح أن رئيس الوزراء أظهر صرامةً وأبان موقفاً يُحمَد له، وكسب به ثقة عامة الشعب، لكن عليه في وأد هذه الطريقة العقيمة لاختيار الوزراء أن يَتبَع رأسها الذنبا، أن يكون أكثر تشدُّداً في اختيار الفريق الذي يعمل معه، فالاختيار الخاطئ يقود إلى نتيجة خاطئة، ولن يغفر التاريخ لحمدوك إن تساهَل في الاختيار رجاء بحكومة ضعيفة مَهيضة الجناح وفاشلة، فهو من يتحمل مسؤولية كل ما سيحدُث، وإذا حدَث الفشل ستقوم أحزاب الحرية والتغيير بنفض يدها منه ومن حكومته وسيُلطّخُونه بالنقد والشتم ويتبرأون منه، فعليه أن يتحمل مسؤوليته كاملة ويُحسن اختيار فريقه ووزرائه ويرفض منطق المُحاصصات الحزبية، ويختار من بين كل السودانيين الأكفاء العلماء والقادرين على التمام.