أنصاص الليالي
لا شَكّ أنّ العنوان أعلاه يمثل لافتةً تهديديةً عالية النبرة و(البرجعاجية) داخل منظومة الحوار اللا وطني البيتي.. حوار ذي اتّجاه واحد، المهزوم فيه دوماً ذلك الكائن المسكين الذي يأتي (متسحباً) بالليل وحيداً، ضائعاً، مُنفرداً وغاصاً في أزمة الدخول المُستمرة إلى مخدعه، لن يلقي الحبيبة أبداً (تشتغل منديل حرير) فلقد تركت تلك (العوارة) منذ أن خلا لها الجو وبَاضَت واصفرت.
إصفرار يصيبه وشحوب منذ الخطوة إلى (بطن البيت) وحتى أوان السؤال وما بينها، هو في ضَجّة الخوف والهواجس مسائلاً نفسه (عز الليل):
(يا ربي أقول شنو؟!):
ناجي أحد أصدقائي.. تحيِّره فكرة أنها دجنته على نحو تدريجي هادئ، وبتأثيرٍ طويل النفس والأمد دُون أن يشعر، مرسلة إيّاه إلى هذه الناحية القصية من (البلبلة واللا ثبات).. يقول ناجي: (في مَرّة اكتشفت فجأةً أنّ الأمر قد تجاوز حَدّه ووصل إلى حدّ اللا مَعقول، كان هذا ذات ليل وأنا أفعل ما أفعله حين كل تأخير.. أدخلت المفتاح بكل رفقٍ، وخطوت على “طراطيف” أصابعي، وبالكاد كنت أتنفّس، ثم حانت مني انتباهة إلى حالة الذعر التي أنا فيها وخوفي أن تصحو.. فأشفقت على حالي الذي صرت إليه.. وأحزنني أنّني أفعل ذلك الخَوْف كل ليلة.. كيف فعلت بي كل ذلك؟! ومتى تغيّرت وصرت “خَوّافاً” إلى هذه الدرجة؟!).
تَخلّصَ صديقي من خوفه في تلك الليلة ودخل مخدعه، ضَاجّاً كالمجنون، مُنتصراً كالفاتحين، قاطعاً المَسَافة من باب الشارع إلى غُرفة نومه، لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه.
غنم ليلته تلك.. لكنه لم يُكرِّرها.. فَهُو دائماً ما يذكر طرفة (الأسد والثور) ويحكيها كلّما شاغلناه:
(تأخّر الأسد والثور في لعب الكوتشينة حتى انتبه الأسد فاستأذن واقفاً وهو ينظر إلى الساعة.. تضايق الثور وقال ساخراً: “أفوو يا الأسد، بتخاف من مرتك”.. الأسد: “يا أخوي أنا مُتزوِّج لي لبوة، ما بقرة زيّك”).
في الزمان الأول من الزواج، تكون الحياة حلوة و(الأمور طيبة) والمياه في مَجاريها والسماء صافية مُعبأة بالبشارة.. ولحن الحياة ينساب ما بين الزوجين.
أقصى حَدٍّ وصله (أبو اللمين) في غنائه لسنوات العسل هي (خمس سنين) وفقط.. بعدها (ينكسر المِرِق ويتشتّت الرصاص).. تكثر الحوادث فتلجأ الزوجة إلى (النِّقة) بينما يذهب الرجال إلى السهر والأصدقاء.
بعضهم أفلح في تقنين ذلك بلا (دوشة) أن يمنح للطرف الآخر بعضاً من الحُريات اتفاقاً (Me time)، وفيها فسحة من الترويح لا تتصادم مع المزاج الزوجي وليست خَصماً من حِساب العِلاقة، بَل هي إضافة تجديدية وإنعاش للشوق والريد، كسراً للجمود والرتابة.
رتّبوا حياتهم بحيث يعرف كل طرف بأنّ ثمة حاجات أخرى لا يُمكن توافرها جميعاً داخل ذلك البيت السعيد، إذ أنّ (الخروجة) نفسها تمثل إضافة وإثراءً لعلاقة الطرفين، بل أنّ الإجبار على التَّخلِّي عنها ينتج شُعُوراً بفقدان الهَويّة والكَبت الذي سَيَعُود من بعد طاقةٍ سلبيةٍ مُنتجة للاشتجار والخلاف.. حَتماً تعود الطيور إلى أوكارها (خماصاً وبطاناً) لكنها وفي كل حين سَعيدةٌ.. سَعيدةٌ بالخروج، كما أنّها سَعيدةٌ بالعَودة.. وكما يقول الشهيد فرح مختار شندق مُتسائلاً بلهجته المصرية المُحَبّبة:
(تطلع من بيتك حزين … تلقى الفرح عند مين؟!).