حرب الطيران الحربي ضد المواطنين
د. صديق امبده
لا أعتقد أننا نختلف في أن السوداني في وطنه هو سوداني أينما كان. كما أن أي جريمة تتبع مرتكبها بالأصالة، “الجريمة كلب تابع سيدو” كما يقول مثل سوداني سائر، وليس أي شخص آخر، مهما كانت صلته، مناطقياً أو قبلياً وجهوياً. وبهذا فإن تصنيف بعض المدن والمناطق في ولايات دارفور وكردفان تحديداً بأنها “حواضن” للدعم السريع، وما يتبع ذلك من أن المواطنين الذين يقطنون تلك المدن (والأرياف) هم أهداف مشروعة للقتل الجماعي والترويع، هولا شك تصنيف خارج القانون. ليس ذلك فقط إنما يعيدنا هذا السلوك إلى عصور سحيقة عندما كان العقاب الجماعي هو القانون واليد الباطشة لـ” القوِي علي الضعيف”. والأدهى من ذلك وأمر، هو سهولة تصنيف جرائم الطيران الحربي التي طالت مواطني مدن وأرياف تلك “الحواضن”، كاستهداف عنصري من قبل الكثيرين، حتى ممن هم من خارج تلك المناطق. هل نلوم المستهدفين حين يعتقدون ذلك، وعندما يرون أن الطيران الحربي يستهدفهم بالقتل الجماعي بطرق مباشرة وغير مباشرة بضربه لمرافق المياه والكهرباء والمستشفيات والأسواق الأسبوعية.
عندما يتولى قادة الجيش والدولة كِبَر الدعوة إلى استهداف الحواضن وتوجيه الطيران الحربي إلى ضربها -أي ضرب وقتل أهل جنود الدعم السريع- أو مواطن القبائل المشتبه بانتماء بعض أبنائها للدعم السريع، فقد تم فتح الباب واسعاً لاستشراء خطاب الكراهية. وتكتمل الحلقة الشريرة عندما يتبعهم لايفاتية داعمو الحرب وسفهاء كثر على فضاء وسائل التواصل الاجتماعي يدعون إلى إبادة تلك الحواضن، بل وإلى قتل الأمهات اللائي يلدن من يمكن أن يصبحوا “دعامة” مستقبلاً. ألا يعلم هؤلاء أن مثل هذا الهراء الفالت والتحريض على القتل بهذا الشكل هو دعوة للإبادة الجماعية لمجموعات قبلية/إثنية بعينها. وبدلاً من أن تكبح قيادة الجيش والدولة الرسمية هذا الخطاب، تبدو (مبسوطة) منه، لأنها مستمرة في توجيه الطيران الحربي بضرب وقتل من يتواجدون أو يقطنون في تلك الحواضن. لقد اتخذ خطاب الكراهية منحى خطيراً في الأيام الأخيرة، إذ ظهر أحدهم، وهو رجل مسن ربما فوق السبعين من العمر، أمام خلفية عليها اسم وشعار الاتحاد الاشتراكي، سيء الذكر من زمن النميري، ويقول -بعد حديث سقيم- “يريدوننا أن نسكت ولن نسكت، نحن في وسط السودان عنصريون، عنصريون، ولن نسكت بعد الآن”. لا حول ولا قوة إلا بالله.
وإمعانا في الاستهداف يتبعون توجيه الطيران بضرب ما سمي بـ”الحواضن”، بقوانين، مثل قانون الوجوه الغريبة، علي من يتواجدون في مناطق/حواضن معظم ضباط الجيش، الولايات الآمنة. يُطبًق القانون على من يُشتبه في أنه ليس من المنطقة، خاصة إذا اتضح من أوراقه الثبوتية أو لهجته -وهو نازح- أنه من مواليد ولايات غرب السودان التي ينتسب إليها معظم محاربي الدعم السريع. بل وتُعقد للمشتبه فيهم محاكم ‘كانقارو‘ * كالتي عقدت للصادق الطاهر ضو البيت مؤخراً والذي أصبح حكمها مادة متداولة في وسائط التواصل الاجتماعي. الطاهر ضو البيت من مواليد جنوب دارفور ومريض يعاني من الفشل الكلوي، ومثل كثيرين نزح إلى عطبرة بصحبة ابنيه الصادق وعادل طلبا للعلاج. المحاكمة المذكورة تمت بعد عدة أشهر من إبقاء أبنائه في الحجز في مخافر الأجهزة الأمنية، وأصدر القاضي حكمه، في غياب الشاكي والمتحري -وفقا لتسجيل متداول لوالد المحكوم عليه. وكانت حيثيات الحكم وفقاً لما هو متداول (مثلاً تسجيل صوتي للصحفي محمد لطيف 27 سبتمبر 24) وجود كلمتي بل بس، في جواله، مما اعتبره القاضي الهمام “استهزاء”، وبناء عليه أصدر الحكم بالسجن عشرين عاماً على المتهم. لا أدري بماذا حَكَم قراقوش الذي يضرب به المثل في جور الحُكم، ولكن فيما يبدو، فقد ظهر في زمننا الأعجف هذا، على الأقل قاضي واحد ينافسه أو بيده في جور الأحكام. وللأسف هذه ليست المرة الأولى، فقد تم في الشهر الماضي الحكم بالإعدام على الشابة الرحمون حامد (24 عاما)، مسيريه، تعود أصولها إلى غرب كردفان، بمحكمة جنايات عطبرة لوجود روشتات علاجية للمركز الطبي الذي كانت تعمل به من قبل الحرب، في منطقة شرق النيل الخاضعة لسيطرة الدعم السريع، بتهمة التخابر مع العدو، والقضية الآن في الاستئناف.
لا أدري متى بدأت على وجه التحديد فكرة/استراتيجية ضرب الحواضن بدلاً عن قوات الدعم السريع. في تقديري ربما بعد أن خسر الجيش معظم مواقعه والقيادة العامة داخل العاصمة، وربما بعد توالي سقوط حامياته بانسحابات قواته، أو هروبها، من أمام قوات الدعم السريع في كل من الجزيرة وسنجة، ومن بعض المناطق في غرب كردفان وغيرها. إن صح افتراضي حول التوقيت الزمني، أو لم يصح، فإن هذه الاستراتيجية هي ردة فعل يائسة وسياسة كارثية علي الجيش. أقول ذلك لأنها فش غبينة ساي، مثل قولهم في المثل السوداني البالي -والمستهجن حاليا- “غبينة الحُرة تفشها في الخادم”، إذ عندما لم تستطع قوات الجيش السوداني مواجهة وهزيمة الدعم السريع في ميادين القتال، استعاضت عن ذلك بضرب ما أسموه حواضنهم، أي أسرهم وأهلهم كافة، وكل من يتواجد في تلك المناطق من الإثنيات كلهن. أقول ذلك بسبب أن استهداف الحواضن لن يشكل -بحد ذاته- نصرا للجيش على الدعم السريع في الميدان، كما أن استهداف المدنيين قد يجلب عليه، وعلى قادته دعاوى قانونية وخيمة العواقب مستقبلاً. كما أنها لا تقل كارثية في آثارها على الشعب السوداني، حيث إنها -لا قدر الله- قد تقود إلى حرب أهلية شاملة يكون القتل فيها على الهوية الذي لن ينجو منه أحد، إلا الذين ينفخون في نار الحرب وهم عنها في مأمن في دول المنافي البعيدة (عليهم لعنة الله).
للأسف، فإن استهداف الطيران الحربي للمدنيين لم يبدأ في الحرب الحالية، وإنما منذ مدة، في حربه ضد ‘ المتمردين‘ في كل من جبال النوبة ودارفور. وقد نبهني إلى هذا، ووفر لي بعض المعلومات هيئة محامي دارفور، فالشكر لها ورئيسها الأستاذ الصادق علي حسن. وفي دارفور على وجه التحديد، فقد بدأ الطيران الحربي في استهداف مصادر المياه وتلوث البيئة في عام 2016، ويقول تقرير أمنستي إنترناشونال الصادر في 29 سبتمبر 2016 بأن الجيش استخدم أسلحة كيماوية في دارفور أدت إلى مقتل 200 شخص جراء صعوبات في التنفس والتقيؤ. وخلال الحرب الحالية قام الطيران الحربي غارات بالبراميل المتفجرة على مواقع مختلفة في دار فور شملت من ضمن أخرى مدن الفاشر، نيالا، الضعين، زالنجي والجنينة وألحقت أضرار بالغة بمصادر المياه والبيئة. وفي 27 أبريل استهدف الطيران مصادر المياه بمناطق كبكابية والزاوية غرًة وجديد السيل. وبتفصيل أكثر نرى أدناه نتائج قصف ما سمي بحواضن الدعم السريع في كل من دارفور وكردفان:
نيالا: تمت خلال الأشهر الأربعة الماضية عمليات قصف شملت أربع أسواق، كما تم قصف المستشفى ومحطة كهرباء ومياه نيالا، والكبري الرابط بين طرفي وادي نيالا. وقبلها بعدة أشهر تم قصف كبرى طيبة، وكان عدد الضحايا 23 أغلبهم من النساء والأطفال، وأخيرا تم قصف وتدمير المطار بعد الحديث عن هبوط طائرة مجهولة الهوية به.
الضعين: سوق المدينة تعرض ثلاث مرات للقصف الجوي؛ مما أدى إلى مقتل وإصابة العديد من المدنيين.
الفاشر: تم قصف سوق المواشي مرتين وكذلك مستشفى الأطفال ومحطات الكهرباء والمياه، ومنذ شهرين تتعرض المدينة للقصف يوميا أكثر من مرة (بسبب وجود الدعم السريع داخل المدينة).
كتم: تم قصف المدينة خمس مرات، وطال القصف المستشفى والسوق.
الزُرق: تم القصف بالبراميل المتفجرة (كما هو الحال في معظم الغارات)، ودمر 15 مصدراً للمياه من أصل 18 بالمنطقة؛ مما أدى نزوح غالبية سكان المنطقة وهم من الرعاة الرحل.
مليط: تم قصفها نحو 13 مرة، وطال القصف مجمع آبار- حيث أبيدت فيه بين 250-300 من الإبل وعدد سبعة أشخاص من أصحابها وهي تستسقي لأول مرة من تلك الآبار. كما تم قصف السوق أكثر من مرة، وتم آخر قصف للمدينة يوم الجمعة 4 أكتوبر راح ضحيته عدد 8 أشخاص من أسرة واحدة، كما تم كذلك قصف المستشفى.
الكومة (شرق الفاشر): تم قصف المدينة وحواليها بين 12-15 مرة كان آخرها يوم الجمعة 4 أكتوبر الحالي حيث تم قصف السوق الأسبوعي للمدينة بالبراميل المتفجرة بتوقيت واضح القصد ليحدث أكبر عدد من الخسائر البشرية. تم القصف الساعة العاشرة صباحا (وقت عمار السوق) وفي يوم السوق الأسبوعي حيث يكتظ سوق المدينة بالمتسوقين من القرى القريبة، وكانت حصيلة القصف أن لقي تسعين (90) شخصا حتفهم بينهم نساء وأطفال وبعض كبار السن، بالإضافة إلى عدد كبير من الجرحى، كان في البداية حوالي 250 شخصا توفي عدد كبير منهم بسبب انعدام الإسعافات والأدوية اللازمة.
حمرة الشيخ (شمال كردفان): آخر قصف تم يوم الجمعة 4 أكتوبر الحالي وهو يوم السوق في الحمرة، وراح ضحيته نحو 30 من القتلى وأكثر من مائة (100) من المصابين وفقا لبعض المصادر.
المجلد (غرب كردفان): حوالي 3 مرات
بابنوسة (غرب كردفان): تم قصفها عدة مرات، ودمرت أغلب مبانيها ومؤسساتها.
من الملاحظ أن الطيران استهدف الأسواق عموما وبشكل خاص عندما تكون تلك الأسواق مكتظة بالمواطنين كما حدث في سوق مدينتي الكومة والحمرة مؤخرا؛ أو مصادر المياه (دوانكي، آبار) التي يعتمد عليها المواطنون في الحصول علي الماء لهم ولمواشيهم، وهي أيضا أماكن ازدحام، بالإضافة إلى ذلك تم استهداف المستشفيات ومحطات المياه كما حدث في الفاشر ونيالا. والاستنتاج الواضح هو أن الهدف من الهجوم المتواصل للطيران علي ما سمي بالحواضن هو إيقاع أكبر عدد من الضحايا من المواطنين الأبرياء من النساء والأطفال وكبار السن.
من المعروف أن الحرب رغم عدم أخلاقيتها في المقام الأول، هي أيضا لها قوانين أخلاقية وأولها عدم استهداف المدنيين. إن العقوبة الجماعية لقبائل وإثنيات بعينها باعتبارها مصادر/حواضن للدعم السريع تقوم علي افتراض خاطئ، لأن أغلب تلك القبائل لها أبناء يحاربون مع الجيش أيضا. وإذا كان القصد هو التخويف، فإن ذلك للأسف لن يتحقق، بل قد يتحقق ما هو عكسه تماما إذا ما فهم أهل تلك الحواضن أن القصف المتواصل لمناطقهم هو بداية لحرب إبادة كاملة لهم. في جميع الأحول عند السودان ما يكفيه من المحن والكوارث والأوجب ألا نزيد نيرانه حطبا.
نسأل الله أن يهدي المتحاربين جميعا سواء السبيل، حتى يجنبونا انزلاق السودان إلى مصير لا يدري أحد مدي سوءه. والحقيقة فإن المسؤولية الأكبر الآن تقع على عاتق الجيش ليرى أبعد من استراتيجيات قاصرة مثل قصف الأبرياء، وخاسرة ومدمرة لكل السودان، قد تؤدي إلى اشتعال حرب أهلية شاملة تحرق أخضر السودان ويابسه. وأرى أن من واجب جميع أطراف الحرب وداعميها أن يكبحوا هذا الشطط المجنون والمتنامي في نفخ كِير نار الخطاب العنصري. كما على القوى المدنية عموما أن تسعى بكل الوسائل لتبيان مخاطر خطاب الكراهية المتنامي ونتائجه الكارثية على كل السودان.
السادة قادة الجيش أنتم في يدكم توجيه الحرب وتوجيه قواتكم لضرب عدوكم في الميدان -الدعم السريع- وهو حقكم الطبيعي، ولا تحتاجون للتذكير أن من واجبكم تجنيب المدنيين من كل شاكلة ولون المعاناة من الحرب وحمايتهم من الإصابة برصاص الأسلحة الخفيفة، ومن شظايا المدافع الثقيلة ما أمكن ذلك، ومن قصف الطيران الحربي وهو ما تحت إمرتكم. كثيرون قد يعتقدون أنني بمثل هذا الحديث كمن يحرث في البحر، ولكني ما زلت آملا في فعل الخير من كل حسب استطاعته وواجبه وما يمليه عليه ضميره تجاه الوطن.
السيد الفريق أول عبد الفتاح البرهان وبصفتك، كقائد عام للجيش وكرئيس لمجلس السيادة، لقد كررت كثيراً في خطاباتك بأن “الحِصًة وطن”، فهلا فعلت ما تمليه عليك مسؤولية الوطن. إن لم تجنح للسلام الآن، فعلى الأقل جنٍب السودان الانحدار نحو التشظي والانقسام، ” أوقف استهداف الطيران للمواطنين الأبرياء” في كل بقعة من السودان (اليوم 7 أكتوبر تم استهداف سوق فور بالحصاحيصا)، أعمل على إيقاف خطاب الكراهية، والدعوات المظلومين. قالت امرأة فقيرة ترعى في ماعز لها في ريفي الكومة بشمال دارفور تم قصف ماعزها (نعيشها -باللهجة المحلية) قالت بعد القصف، وبعد أن رفعت يدها عالية إلى السماء، “إني مرة وزَرقة (أي لا حول لي ولا قوة)، وما عندي شغل بلا نعيزي ديل (ليس لي شيء غيرها)، يا البرهان شكيتك لي الله القوِي أبو إيدا ما بتنلوي” وكررتها عدة مرات. وظنٍي أن دعوتها وأمثالها ليس بينها وبين الله حجاب.
* يعود مصطلح محاكم الكانجارو إلى القرن الثامن عشر في الغرب الأمريكي، حيث كان يكثر الأستراليون الباحثون عن الذهب هناك. ويعني محاكم شكلية عاجلة، لا تراعي الإجراءات الضرورية الواجبة للوصول إلى الحكم العادل، بل تقفز (مثل حيوان الكانقارو) مباشرة إلى الحكم المقرر سلفا، بتجاهل أي دليل يكون في صالح المتهم. والمعروف أن حيوان الكانقارو -وموطنه أستراليا- يقفز في مشيه.