محن مصرية
شوقي بدري
في يونيو 1971 كنت في زيارة أخي كمال إبراهيم بدري في القاهرة، وفي الصباح فتحت الشباك وكنت في شارع رشدي عمارة رقم 23 وهذا في حي باب اللوق، وليس بعيداً عن محكمة عابدين الشهيرة، وفي الشارع كانت هنالك عربة كارو صغيرة مصنوعة من الزنك ممتلئة بالزبالة، وفي وسط تلك الزبالة كانت هنالك طفلة في السادسة من عمرها تقوم بنبش الزبالة وتلتقط بعض الاشياء وتأكلها، ثم سمعت طرقاً على باب المطبخ فذهبت لأفتح الباب، فوجدت عامل الزبالة أمامي. ثم اتت خالتي شقيقة والدتي وزوجة أخي كمال الذي هو عديل والده. فقالت خالتي للزبال: (دا أخو كمال وجا أمبارح)..
فقال الزبال كلاماً كثيراً ورحب بي كعادة أغلب المصريين وقال لي ربنا فتح عليك وجابك مصر. دي أحسن بلد في العالم.. دي أم الدنيا. فقالت له خالتي بس لكن ده عايش في أوروبا.. فواصل الرجل قائلاً. أوروبا ايه!!. الناس بتمشي اوروبا عشان تعمل فلوس عشان تجي تعيش في مصر. ما فيش حته في العالم أحسن من مصر..
لماذا يصعب على المصريين ان يفهموا بأنهم ليسوا بأذكى الناس، وأن مصر هي أحسن بلد في العالم. حتى الزبال الذي تقتات ابنته من الزبالة على اقتناع بأنه أسعد إنسان لأنه يعيش في مصر..
قبل بضع سنوات تعرض الفريق المصري لهزيمة من الفريق القومي السعودي. وثار الشعب المصري وتشنج المسؤولون وتدحرجت بعض الرؤوس، وتدخلت الحكومة وطرد المسؤولون وكان ذلك يوماً أسوداً، أكثر سواداً من يوم الهزيمة من اسرائيل في الحرب. وعندما سأل الصحفي إبراهيم موسى الخير رحمة الله عليه أحد الدبلوماسيين المصريين عن سبب غضبهم وألمهم الشديد، قال ما معناه.. كيف يغلبنا السعوديين! .. دول نحنا اللعلمناهم.. انحنا علمناهم كل حاجة. علمناهم الكرة. علمناهم حتى الكلام . فضحك إبراهيم موسى رحمة الله عليه.. وقال: ياخي منو العلم منو.. اللغة العربية دي ما لغتكم.. لغة السعوديين. والدين الاسلامي جاكم من السعودية. السعوديين غيروكم 180 درجة، وبرضو تقول لي مين علم مين. ياخ ما تنسى انو السعودية عندها أفضال كثيرة جداً على مصر .
والحقيقة أن المصريين استفادوا من الدين الإسلامي أكثر من السعوديين. لمئات السنين كان هنالك مقرئ مصري، أو واعظ، أو معلم لغة عربية في كل مكان في العالم، أو إماماً، أو مأذوناً من مصر. المصريون يتصرفون باقتناع كامل بأنهم أهل الدين الإسلامي وهم الأعلم والأدرى بالإسلام.. الله!! مش الأزهر الشريف في مصر.
لقد انقلبت الموازين. صارت قطر التي يقل عدد سكانها من المسطحين على القطارات المصرية، تعقد المؤتمرات وتناقش مصير الأمة العربية، وتحل وتربط، وقناة الجزيرة تتفوق على كل القنوات الفضائية المصرية، والمصريون يحسبون أن هذا تغول على حقوقهم التاريخية، هم الذين أنتجوا العلماء والمفكرين. ولا يعلى عليهم. ويريدون ان يوقفوا الزمن في عهد حتشبسوت.
ولا أملك نفسي من الابتسام كل ما أشاهد مصري يتحدث عن الاسكندرية وعظمتها. الاسكندر فاتح ومغتصب دخلت جيوشه مصر وعاثت فيها فسادا، كعادة كل الجيوش قديماً، فلقد نهبوا واغتصبوا واستعبدوا المصريين، الجيش الصغير المقدوني قد تضخم، وانضم إليه كل شذاذ الآفاق وكل الإنكشارية. هل هنالك دولة في العالم تعظم وتطلق اسم مغتصبها على ثاني أكبر مدينة فيها؟ إنها إحدى المحن المصرية. والاسكندر اشتهر بأنه من أكبر المثليين في العالم. وسقراط حكم عليه بالموت لأنه كان يفسد الشباب اليوناني، وكان مثلياً، فالاسكندر ليس بمغتصب بل مثلي، ولكن أشهر مثلى في العالم .
اسم كيلوباترا يطلق على السجاير، وعلى كل شيء حتى البلاط.. وكيلوباترا ليس لها أي دخل بالمصريين. فلقد حكم البطالسة وهم اليونانيون، مصر. وهؤلاء بقايا الاسكندر وجثموا على صدر الشعب المصري واستغلوه واستعبدوه. وكيلوباترا كما يحكي المصريون أنفسهم قدمت نفسها عارية في بساط لقيصر. وصارت عشيقته. وعندما ولدت ابنا من قيصر، رجعت وقتلت شقيقها حتى لا يطالب بالملك مع ابنها. ثم صارت عشيقة القائد الروماني انطونيو.. وعندما كانت الجيوش الرومانية تقترب من مملكتها بعد هزيمة انطونيو قامت بالانتحار..
أنا لا أجد اي شيء هنا يدعو للفخر أو العظمة. لماذا تعظم كليوباترا الأجنبية في مصر؟.
نسمع كذلك عن الملكة شجرة الدر التي حكمت مصر لأيام والتي تعظم في مصر مارست الخداع والتآمر إلى أن فازت بها غريمتها وضرتها أم علي، وقتلتها ضربا بالشباشب وصنعت حلوى أم علي من الشعير والزبيب والسكر والحليب ووزعتها على الشعب المصري المسكين. وزينت الوليمة بنهدي شجرة الدر. وإلى الآن يحتفل المصريون بأم علي ويأكلونها.
ويقترن اسم القاهرة بقاهرة المعز، والمعز لدين الله الفاطمي غازي، غزا مصر وهو من البربر، قتل جيوش المصريين وفتك بهم، وادعى أنه حفيد النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما سألوه عن حسبه ونسبه، أخرج الدنانير ونثرها قائلاً هذا حسبي، واستل سيفه قائلاً هذا نسبي.. والقاهرة تحمل إسم مغتصب وغازي.
كثيراً ما يردد المصريون المثل.. (البتفتكرو موسى يطلع فرعون)، والفرعون المقصود هو تحتمس وله تمثال ضخم ينتصب في وسط القاهرة. وما أن تتكلم مع أي مصري حتى يقول لك.. نحن أعرق شعب ونحن أقدم حضارة.. ونحنا الفراعنة البنينا وعملنا المعجزات. وأجدادنا بنو الاهرامات. وعندما نقول ياخي انت قبل شويه كنت بتقول انكم عرب، وأنكم أشرف العرب وانو مافيش عروبة بدون مصر. طيب ياخ فهمنا انتو عرب ولا فراعنة؟ ويكون الرد .. آه انحنا الاثنين. وهذه محنة مصرية.
بعض المصريين يقولون لك انت كردي ما بتفهمش. ولا يحسنون الظن بالأكراد. ويتكلمون عن صلاح الدين البطل المصري. وصلاح الدين كردي ليس له دخل بمصر سوى أنه دخل مصر بفيزة دخول وإذن عمل وكان جندياً. .
وما ان تتكلم عن الشعر حتى يذكروا لك أحمد شوقي أمير الشعراء وأحسن شاعر مصري. وكنا نحن على اقتناع كذلك بأنه مصري إلى أن كبرنا وعرفنا أنه من والدين أحدهما تركي والآخر كردي. عندما يكون الإنسان ناجحاً يتقبلونه كمصري، ولا يتنازلون عن مصريته. مثل جورج أبيض أبو المسرح.
لقد سمعنا كثيراً أن فلم غزل البنات هو أعظم فيلم أخرجته البشرية وان الريحاني الممثل المصري هو أعظم ممثل في العالم. وعندما خرجنا للعالم اكتشفنا أن فيلم غزل البنات مسروق من هوليود. القصة والاخراج والسيناريو. وأن الريحاني ليس بمصري. وفي يونيو 1996 قرأت في الاهرام حوار يقال فيه أن الممثلين المصريين هم أحسن ممثلين في العالم. ويرد المحاور …والمخرجين المصريين كذلك.
يطرب المصريون عندما يوصف السودانيون وتحكى عنهم النكات بسبب الكسل. ولعشرات السنين كانت النكات تحكى عن المصريين وبلادتهم وغبائهم وكنا نتألم ولا نقبل، لأن الشعب المصري شعب عظيم، مثل كل الشعوب الأخرى إلا أنه مغيب، ولم يحتج المصريون لأن الحكاوي عن الصعايدة ومصريى القاهرة يشاركون في النكات والاساءة الى الصعايدة ، وكأنهم ليسوا مصريين . والصعايدة أكثر المصريين رجولة وكرما.
شعب يستجدي نصف قوته ويعيش على الاعانات، لماذا يصر على انه أعظم شعب.. ولماذا يتقبل المصريون هذه الترهات من حكامهم. أبسط شيء، لكي تصلح أي وضع في العالم هو أن تعترف بالغلط. لماذا يتحدث المصريون عن مصر بلاد الحريات وبلد الديمقراطية وبلد المؤسسات. المحنة أن أغلب الشعب المصري يؤمن بهذه الأشياء.
في حديثي مع بعض الاخوة المصرين عندما كان سكان مدن القنال يعيشون في القاهرة.. كان يقول لي..بنات بورسعيد دول تعرفهم من شكلهم ..يا سلام عليهم. دول عيونهم خضرة وبتلاقي بيناتهم شقر. ما هم دول يا عمي أحفاد الفرنسيين. ويقول المصريون هذا بفخر. وهذا إشارة إلى جنود نابليون الذين احتلوا مصر واغتصبوا المصريات، خاصة منطقة القنال قبل أكثر من 200 سنة. وكل ما تذكر بورسعيد يتحدث المصريون عن هذه الظاهرة بفخر. هل هذا هو مركب النقص نحو الاوروبيين؟. كيف يفتخر الناس بذكرى احتلال بلدهم واغتصاب نساءهم.. أليست هذه بمحنة؟ وهل إذا كان الكنغوليون احتلوا بورسعيد.. هل كان المصريون سيتكلمون عن احفاد الكنغوليين بمثل هذا الفخر؟ ..
shawgibadri@hotmail.com