البقرة المقدسة
يعقوب نورين
يحكي أن حكيماً كان يخرج كل فترة ليري كيف تمضي حياة الناس ويتجول في القري والبلدات يرافقه غلاماً يعمل لخدمته وفي إحدى المرات نزل الحكيم وغلامه ضيوفاً عند أحد القرويين فأكرم المضيف وفادة الحكيم وغلامه، وبعد أن قدم لهم الطعام والشراب بدأ الحكيم يتجاذب أطراف الحديث مع صاحب الدار وسأله الحكيم عن حياته ومصدر رزقه ومن أين يجد ما يكفي أسرته وقد رأي أن له عددا من البنين والبنات ولا يملك غير بقرة واحدة ، فقال المضيف إني أملك هذه البقرة فاقوم بحلب *اللبن وبيع نصفه في السوق واشتري به حاجات الأسرة والنصف الاخر نصنع منه الجبن والزبادي وهكذا تمضي حياتنا كما تري أيها الحكيم، تبسم الشيخ ولم يرد علي صاحب الدار ، وعند الصباح استأذن الحكيم في المغادرة بعد أن شكر صاحب الدار علي كرم الضيافة ، وبعدما ابتعدوا ألتفت الحكيم للغلام قائلاً له في لهجة صارمة أذهب وألقي بتلك البقرة من فوق التلة وتأكد أنها قد سقطت ، الجمت المفاجأة الغلام ولكنه لا يملك أن يناقش أو يجادل الحكيم في هكذا أمر، فمضي ونفذ أمر الحكيم وهو يشعر بتأنيب الضمير علي ما اقترفت يداه في حق هذه الأسرة الفقيرة وكيف يعيشون بعد أن قتل البقرة الوحيدة التي كانت تؤمن لهم سبل الحياة.
مضت عامان علي تلك الحادثة ولا زال الغلام في صراع داخلي مع الذنب الذي ارتكبه في حق تلك الأسرة، وشاءت الأقدار أن يعود الغلام إلي تلك القرية واراد أن يتعرف علي مصير تلك الأسرة التي اجرم في حقها وعندما ذهب إلى مكان البيت وجد بيتا مختلفاً تماماً، خضرة وماء وأطفال يلعبون والسعادة تغمر وجوههم، وعندها أيقن أن ذاك الرجل قد باع بيت أسرته إلى شخص غني بعد أن فقد تلك البقرة التي كان يعيش عليها، وقد قرر الغلام أن يسأل مالك البيت الجديد عن الرجل الفقير صاحب الدار الأول، وعندما طرق الباب فتح الرجل ولم يعرفه الغلام فسأله أين صاحب هذه الدار فقال له الرجل أنا صاحب الدار فقال الغلام لا اقصدك أنت وإنما أقصد من اشتريت منه الدار فقال له الرجل هذه داري ولم اشتريها من أحد ، تعجب الغلام وقال للرجل ولكني زرت هذه الدار قبل عامين ووجدت رجل وأسرته وكانوا فقراء يملكون بقرة واحدة فقط ، وهنا تبسم الرجل وقال نعم أنا هو ذاك الرجل الفقير فقد سقطت البقرة من فوق التلة وماتت وبعدها ذهبت إلى المدينة وعملت بالتجارة وتغير حالي وأسرتي كما تري.
سردت هذه القصة لأقول أن حرب الخامس عشر من أبريل ٢٠٢٣م قتلت البقرة المقدسة لما يسمي بالجيش السوداني الذي كان يفعل كل شيء ولا يسأل عن شيء ،سيطرة علي الاقتصاد والشركات الكبرى والريع يذهب لحفنة من أصحاب الرتب الرفيعة أما الجند فهم كلاب صيد لا يستحقون يعيشوا كما الاخرون مع أنهم أول من يلقي بهم في آتون الحروب حتي يسلم أصحاب الرتب الرفيعة الذين يستمرون في مص دم الجنود الغلابة.
٨٠ في المئة من الميزانية تذهب للجيش والجندي لا يستطيع أن يغير بزته العسكرية إلا بعد عام أو عامين.
ماتت البقرة المقدسة للأحزاب السياسية التي كانت سبباً في تخلف وتراجع السودان إلي الحضيض حتي أستحق لقب رجل أفريقيا المريض.
ماتت البقرة المقدسة للنخبة التي سخرت خيرات البلاد لمصالحها الذاتية الضيقة.
ماتت البقرة المقدسة للذين عملوا علي تفريق الشعب السوداني إلي قبائل وطوائف وبيوتات فيها الشريفة والوضيعة وفيها أصحاب المعالي والسعادة وفيها المطحونين والغلابة مع أن بلادهم أغني بلاد الأرض ولكنهم فقراء بسبب سوء الإدارة والفساد والمحسوبية والظلم.
ماتت البقرة المقدسة للذين سعوا من خلال السلطة إلي استمرار الظلم والتهميش والتجهيل المتعمد.
إن حرب الخامس عشر من أبريل قد أسقطت رداء السوء وأظهرت عورات الساسة وما يسمي بقادة الرأي ونجوم المجتمع فقد سقطوا جميعاً في امتحان الوطن والوطنية.
لقد ماتت البقرة المقدسة للسودان القديم وشبعت موتا.
إن السودان الذي يتشكل بعد هذه الحرب لن تجد فيها سودانيا يتنمر أو يتعالي علي اخر بسبب القبيلة أو الجهة أو المكانة الاجتماعية.
بعد هذه الحرب سوف ينشغل كل سوداني ببناء وطنه وتقدم شعبه وسوف تموت في نفوس السودانيين الأنا والنفخة الكاذبة بأن هؤلاء أفضل من هؤلاء.
وبما أن البقرة المقدسة التي كانت تعيق تقدم ورفاهية الشعب قد ماتت فإني أري أن السودان سوف يكون جنة من الجمال والرفاهية والحياة الكريمة.
قوموا إلي وطنكم فإن البقرة المقدسة قد ماتت ولن تبعث مجدداً.