جيش (دار جعل) والنصر المزور!

جيش (دار جعل) والنصر المزور!

علي أحمد

لا أريد أن أتحدث عن الهزيمة الكبيرة التي مُنيت بها مليشيات الكيزان والفلول وحركات الارتزاق، بعد أن (نفخوها) حماساً وملأوها دعايةً بأن ثمة انتصارات تحققت في الخرطوم، وأن قوات الدعم السريع انهارت تماماً وتفرقت شذر مذر، ودفعوا بها ناحية الجيلي، حيث تعرضت لأكبر محنة ومقتلة، نحو 340 قتيلًا، واستلام حوالي 80 عربة قتالية، وتدمير القوة المهاجمة تدميرًا كاملًا ودحرها وهزيمتها هزيمة ساحقة.

في الأثناء، كان أحد أبواق البحر، وهو ناشط متنقب يتبع للأمن الشعبي، ليس له وجه ولا اسم، قد أذاع للناس بيان النصر، وأن مصفاة الجيلي للنفط قد تم تحريرها من “العدو” – الدعم السريع، وأن الجيش حقق انتصاراً ستسير به الركبان ويكتبه التاريخ، فيما كانت رائحة جثامين جنوده وضباطه تفوح في المكان. فخرج إلى الشوارع فلول مدينتي شندي وعطبرة، محتفلين في الشوارع بالنصر (المزور) وليس المؤزر، فيما كان من تبقى على قيد الحياة من كتائب الكيزان يبحث عن مهارب ومخارج تعتصم بها من الجحيم.

لا أريد أن أتحدث عن ذلك، لكن الشيء بالشيء يُذكر، فما يهمني هنا هو اسم المتحرك الذي تمت إبادته في عملية الجيلي، وهو اسم لو تعلمون (غبي وعبيط). لقد أطلقوا عليه (متحرك دار جعل)، وكأنه ليس جزءًا من الفرقة الثالثة مشاة (شندي)، والتي ربما لا يوجد بين مقاتليها الحقيقيين على الأرض – فيما عدا كبار الضباط – من هم من أبناء منطقة (دار جعل)!
فالسواد الأعظم من جنود هذه الفرقة الميدانيين (البندقجية) هم من أبناء جبال النوبة وغرب السودان والنيل الأزرق وبقية أنحاء السودان الأخرى. أما (دار جعل) هذه، فأبناؤها لا يحبون الجندية ولا القتال، ومع ذلك احتكروا وحدهم أغاني البطولات والشجاعة، كيف؟ الله وحده يعلم (!). وهذا ليس تقليلاً من شأنهم، وإنما هي الحقيقة المحضة والعارية التي لا مراء فيها ولا مداهنة ولا تجميل.

الناظر إلى قتلى مغامرة مصفاة الجيلي (أمس) سيدرك ذلك، كما أن الناظر إلى القتلى من الضباط سيدرك نفس الأمر. لذلك فإن إطلاق اسم ذو طابع قبلي على متحرك يتبع لجيش قومي (كما يدعون) يكشف عن مدى العنصرية والجهوية والقبلية التي تتحكم في عقلية قيادة الجيش وعلى رأسها ابن (دار جعل الفار) عبد الفتاح البرهان.

هذا جانب، لكن الأدهى والأمر هو أن مقاتلي هذا المتحرك يشعرون بإحباط شديد ومعنويات منخفضة وهم يُدفعون نحو القتال بعقيدة قبلية وينسبون إلى جماعة لا ينتمون إليها.
فكيف يقاتل النوباوي أو الزغاوي أو “الأنقسناوي”، على سبيل المثال، تحت راية وشعار (دار جعل)؟ وكيف يذهب إلى الموت من أجل الدفاع عن دار ليست داره، وعن جماعة ليست جماعته؟ ولماذا لا يتركونه يقاتل من أجل السودان قاطبة، من أجل الوطن عموماً، من أجل الشعب بجميع أطيافه ومكوناته؟ لكن قيادة الجيش (الدار جعلية) تريد أن تنسب أي انتصار؛ إن تحقق – ولن يتحقق – إلى الحيز الجغرافي والقبلي الضيق الذي تنتمي إليه، فتنسب جهدًا عسكريًا قوميًا ووطنيًا إلى جماعة عرقية وجهة جغرافية، ربما لا يقاتل إلا بضعة أشخاص من أبنائها ضمن القوات المسلحة.

ما الذي سيحدث في هذه الحالة؟ سيقاتل هؤلاء الذين لا تربطهم صلة بدار جعل، غير أنهم وأبناء هذه الدار سودانيون ينتمون لوطن واحد، سيقاتلون بروحٍ معنوية منخفضة، ولربما لا يستمرون في المعركة كثيرًا، لأنها لا تخصهم، لا تخص السودان قاطبة، وإنما جزء قليل جدًا منه. ولربما سيدور في أذهانهم السؤال المركزي التالي: ما الذي يدفعنا للقتال تحت شعار “دار جعل”؟ إذاً فليأتِ أبناؤها ويقاتلون، ما شأننا نحن؟ ثم ما إن تدور رحى المعركة حتى ينسحبون منها، لأنها ببساطة ليست معركة السودان، وإنما معركة (دار جعل).

يا لها من عنصرية مقيتة صارت تُمارس علناً بلا أدنى حشمة في ما كنا نظن أنه أكثر مؤسسات الدولة حصانة وتحصينًا. لكنه جيش الكيزان والبرهان، جيش (دار جعل)، والعنصرية والأكاذيب و”الدلوكة” و”البطان” و”دخلوها وصقيرها حام”، دون أن يدخل أحد، ودون أن نرى صقورًا إلا تلك التي تحوم فوق جثامين قتلى معركة مصفاة الجيلي، التي احتفل بها من أطلقوا على المتحرك اسم (دار جعل)، قبل أن يبلعوا فرحتهم ويعودوا أدراجهم خاسرين خاسئين.

الكذب لا يصنع نصرًا، والعنصرية كما اسمها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى