اسألوا لأخيكم (البرهان) الشفاء
علي أحمد
ذُهلت عندما استيقظت وبدأت في تصفح الأخبار ووقع بصري على العنوان التالي: “برعاية البرهان.. ورشة لإعادة إعمار ولاية الخرطوم”؟، فقلت لابد أن الحرب قد توقفت وأنا في (آخر نومة) – كم لبثنا؟- أسرعت بعدها في قراءة تفاصيل الخبر الذي يقول: “أعلنت ولاية الخرطوم انعقاد ورشة لإعادة إعمار العاصمة الخرطوم، اليوم الثلاثاء، في مدينة بورتسودان، برعاية (رئيس مجلس السيادة الانتقالي)، عبد الفتاح البرهان. ودعا (والي الخرطوم) أحمد عثمان حمزة، الوزارات والهيئات والوحدات والخبراء لحضور الورشة”.
ومما لا شك فيه أن أي شخص عاقل راشد، سيخطر في ذهنه بعد قراءة هذا الخبر أن الجيش قد حسم الحرب وسيطر سيطرة كاملة غير منقوصة على ولاية الخرطوم، وأن الحرب قد وضعت أوزارها، وأصبحت عاصمة البلاد خالية من المتقاتلين والسلاح، وقد آن أوان إعادة إعمارها وتنظيم الورش وحشد الوزارات والهيئات من أجل وضع التصور لإعادة الإعمار توطئة لتنفيذه على أرض الواقع، ولكنك عندما تعود بذهنك (الشارد في هذا الخبر الخيالي) إلى أرض الواقع ستُصاب بالإحباط وتتملكك الفاجعة.
تنظر إلى مدينة الخرطوم، فلا ترى جيشاً، فيما لا تزال جميع المناطق الاستراتيجية تحت سيطرة قوات الدعم السريع، بما في ذلك القصر الجمهوري (رمز السيادة والحكم) ومطارها الدولي وجميع مقرات الوزارات والمؤسسات الحكومية والبنوك وحتى قيادة الجيش التي تقع تحت الحصار الكامل .
وتعود إلى الخرطوم/ بحري، فلا ترى وجود للجيش إلاّ في أركان قصية محاصرة من قبل قوات الدعم السريع مثل سلاح الأسلحة وسلاح الإشارة والكدرو وجزء صغير من أحياء الحلفايا وربما السامراب.
ثم تذهب إلى شرق النيل فترثى لحال كتائب الجيش ومليشيا الكيزان المحاصرة في معسكر (حطاب)، الذي يعد في حكم (الساقط) عسكرياً، بينما تسيطر قوات الدعم السريع على بقية جغرافيا شرق النيل.
تتأمل مدينة أم درمان، التي يدّعى الجيش السيطرة عليها تماماً، فتجد الدعم السريع في أحياء صالحة حتى مربع 13، وفي عدد من أحياء أمبدة، ومن امتداد مقر الجامعة الإسلامية حتى الجموعية، فيما تقصف مدفعيتها أماكن تواجد الجيش في محلية كرري!
ترجع البصر كرتين، وتحسب نسبة سيطرة الدعم السريع إلى الجيش على العاصمة بمدنها الثلاثة، فتتأكد أن حوالي 80% من مساحة العاصمة والولاية عامة، تحت سيطرة الدعم السريع، فتعود إلى الخبر، وتتساءل: “لماذا تم تنظيم الورشة في بورتسودان”؟، فتجيب نفسك على نفسك: “لأن الخرطوم غير آمنة. فتتساءل مجدداً: ولماذا ليست آمنة؟، فتجيب: لأن الحرب لا تزال مستمرة، وقوات الدعم السريع لا تزال تبسط سيطرتها على نحو 80% على الأقل منها”. وهنا ينفتح عليك السؤال الكبير: كيف إذاً يمكن لكيزان الجيش إعادة إعمارها في ظل هذه الظروف الصعبة والمعقدة، أما كان من الواجب لقائد الجيش أن يفرض سيطرته العسكرية عليها أولاً، ثم يتحدث عن إعادة الإعمار؟، هنا تتأكد أن مثل هذه الورش لا علاقة لها بالإعمار وإنما بالتعويض النفسي للهزائم الكبيرة والساحقة التي تعرض لها قائد الجيش، لذلك يريد الاستعاضة عنها بانتصارات خيالية في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وورش العمل، وأغاني “ندى القلعة” عن (الأسد) غير الموجود أصلاً !!
وأنا أتأمل هذه الحالة النفسية المُزرية التي يمر بها قائد الجيش، استعدت مقالاً بعنوان: “علم النفس العسكري المفهوم والأهداف”، كنت قد قرأته قبل فترة، يناقش الخصائص النفسية للفرد العسكري أثناء الحروب والمعارك.
يؤكد المقال أنّ القادة والأفراد العسكريين المهزومين في الحرب يواجهون اضطرابات نفسية مختلفة، وعلى رأسها ما يعرف في علم النفس بـ(إرهاق المعركة)، وهو مرض نفسي يُحدث اختلالات كبيرة وأضرار جسيمة في التفكير والسلوك ويضعف القدرة على ضبط المشاعر، ويتسبب في تصوير الهزيمة كأنها انتصار ويفاقم من حالة إنكار الواقع.
ويبدو لي إن هذا المرض بالضبط هو ما تعاني منه قيادة الجيش المهزوم برمتها، وعلى رأسها عبد الفتاح البرهان – شفاه الله – الذي لا يستطيع حتى اللحظة زيارة الخرطوم بعد أن هرب منها إلى بورتسودان، ومن منفاه الإجباري هناك لا يزال يسترجع ذكرياته القديمة عن سنوات عمله ومكتبه ومقر قيادته، فتأخذه أحلام العودة بعيداً إلى القيادة العامة للجيش والقصر الجمهوري، لكنه يتذكر أيضاً أن ذلك أضحى في حكم المستحيل، وهو يرى جنود الدعم السريع يفرضون سيطرتهم التامة على القصر، ويحاصرون القيادة العامة للجيش، وهنا ينتبه إلى عجزه وخيبته، فيطلب من عامله على الخرطوم (أحمد عثمان حمزة) – المقيم في بورتسودان أيضاً- أن ينظم له ورشة مخصصة لإعادة إعمار الخرطوم، لأن مجرد انعقادها يمنحه إحساساً زائفاً بأن حلم العودة إلى القيادة العامة والقصر قد أصبح قريباً، أو تحقق بالفعل.
إنها ورشة التعويض النفسي.. اسألوا لأخيكم البرهان الشفاء والثبات.