ما لم يقُلْه على كرتي لمنّاوىّ
عبد الحفيظ مريود
أعلى الرّابية السّاحرة في مدينة “كُتُم”، شمال دارفور، كان مستر مور قد بنى قصره. يشرفُ على المدينة الوادعة. ثمّة الكثير من أشجار النّخيل. حين تلوحُ لك المدينة من بعيد، سيأخذك شكٌّ أولىُّ بأنّك ضللت طريقك إلى الولاية الشمالية، لكثرة النّخيل. ومستر مور يُحكِمُ قبضته على المنطقة، حتّى لقد لُقّب ب “طاغية كُتُم”. قريباً من الرّابية، حيث قصره، يوجد حىّ “الزّريبة”. وأخذ اسمه – كما هو واضحٌ – من أنّه المكان الذي يتمُّ فيه ربط البهائم أو تجميعها. لكنّه لم يكن مكاناً لرّبط البهائم. بل كان “زريبة للبشر”..وهو ما لم تقُله وثائق الإنجليز فيما يتعلّق بقانون “المناطق المقفولة”، سيئ الذّكر.
شايف كيف؟
وهيردوت، أبو التأريخ، يصف بلاد النّوبا. كان قد جمّع معلومات عنها. يذكرُ أنّه يوجدُ قبيلة الزّغاوة، غرب النّيل، فيما يسكن البجاة شرقه. من الواضح أنّهما “العنصران” الأقدم إلى جانب النّوبة. لكنَّ الزّغاوة لا يظهرون فى التواريخ الحاسمة للمنطقة المسمّاة (السّودان)، في المرّاحل المختلفة. في كرمة، نبتة، مروىّ، والممالك المسيحيّة لا يردُ لهم ارتباط بحدثٍ ذى بال. يظهرون لاحقاً حين بدأ “الفور” تأسيس وتوطيد سلطنتهم، ابتداء من القرن السابع عشر، ربّما. دخلوا في حروبات مع السّلطنة، رفضاً لها، لنزعاتهم الاستقلاليّة. لا سيّما وأنَّ “دار زغاوة” قاسية، منعزلة، نوعاً ما.
العام الماضي، كنتُ قد طلبتُ إلى بعض الشّباب من الزّغاوة “السُّودانيين”، ترتيب لقاء مع الدكتور شريف حرير، أستاذ الأنثربولوجيا بجامعة الخرطوم، سابقاً، وجامعة بيرجن. أثناء إجازته في أنجمينا، تشاد. لكنَّ الدّكتور طلب “سيرتي الذّاتية”، قبل تحديد موعد للقائه. كنتُ شغوفاً لمقابلته، خاصةً بعد صدور كتابه العميق عن الزّغاوة. ولمّا لم تكنْ “سيرتى الذاتيّة” تؤهّلني لمقابلته، فقد “احترمتُ نفسى”.
سنعود للزّغاوة.
شايف كيف؟
وعبارة شيخ العرب، ناظر الشّكريّة للمفتّش الانجليزىّ بليغة، فيما يخصُّ الشّجرة. القصّة مشهورةٌ على نطاق واسع في الحكايات السّودانيّة. الشّجرةُ قد كبُرتْ، بلا شكّ. ثمّة عجزٌ وقصر نظر عواقبُه وخيمة.
من بين ذلك، قصر النّظر فيما يتعلّق بمعركة الفاشر، التي تخوضها “القوّات المشتركة” إلى جانب الجيش، لمنع قوّات الدّعم السّريع من دخولها. فالدّوافع الأساسيّة للقتال بالنّسبة للحركات تكمن في انتهاز الفرصة للقضاء على الوجود المسيطر للقبائل ذات الأصول “العربيّة”. ذلك أنّه ابتداءً من أزمة دارفور عام 2003م، كانت العقبة الأساسيّة للحركات المسلّحة هي مقاتلي القبائل العربيّة الذين استعانت بهم حكومة الإنقاذ، حين عجز الجيش عن مواجهة الحركات. سمحتِ حكومة الإنقاذ بخلق واقع جديد في دارفور. حدث تجريفٌ هائل في مساحات قبائل الفور، الزّغاوة، المساليت. ذلك يعرفُه الجميع. ثمَّ بدا للحركات أنَّ حرب الخامس عشر من أبريل 2023م، بعد عشرين عاماً، فرصةٌ سانحة لإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه. ومرّةً أخرى، يفكّر الإسلاميّون بحقن المصل القديم، معكوساً (تسليح ودعم القبائل ذات الأصول الإفريقيّة)، لمواجهة الدّعم السّريع، الذي يعجز الجيش عن رّدعه.
شايف كيف؟
ومرّةً أخرى، يقعُ مقاتلو الحركات وسياسيوها في الفّخ. بمثلما وقعَ فيه استراتيجو الإنقاذ المتحوّرة، التي تخوض حربها لاستعادة الحكم.
ذلك انَّ الدّعم السّريع ليس القبائل العربيّة. ووضعه الرّاهن ليس وضع الحركات عام 2003م، وما بعدها، حتّى يتمَّ حقن المصل، معكوساً، وحتّى تتمكّن الحركات من قلب المعادلات على الأرض. فالدّعم السّريع يسطرُ على جميع مساحات دارفور، عدا الفاشر، كما يسيطرُ على مطلق الحدود مع ليبيا، تشاد، إفريقيا الوسطى، والمساحة الأطول من حدود جنوب السُّودان. عسكريّاً يمكنُ تسميّته ب “جيش”، باستثناء بعض (عِدّة الشغل). لقد حشد – منذ مايو الماضي – ما يقارب الأربعين ألف مقاتل للفاشر وحدها. يحيطُ بها من جميع الجهات ويتوغّل في الأحياء الشرقيّة والشماليّة، قبل أنْ يضيّق الخناق، مؤخّراً، لتكون قيادة الفرقة السّادسة، تحت سمعه وبصره. صحيح انّه فقد قيادات من الوزن الثقيل، لكنّه لم يتراجع.
شايف كيف؟
من الواضح أنَّ الزّغاوة يلعبون دوراً محوريّاً في معركة الفاشر، باعتبار أنَّ حركتىْ منّاوىّ وجبريل ابراهيم، وزير المالية الحالي، حركتان زغاوّيتان. يلعب المساليت وبعض الفور دوراً مساعداً. ثمّة خديعة تمّتْ. ومن الواضح أنَّ الوضع يسير باتّجاه أنْ يسيطر الدّعم السّريع قريباً على الفاشر، لتكون الأسطورةُ قد تهاوت، وستتهاوى معها أحلامٌ كثيرة، وأحابيل. أوّلها سقوط أحلام يقظة الجيش والإسلاميين، قبل الحركات.
و “زريبة” مستر مور، قريباً من قصره، على رّابية “كُتُم”، لن تشهد – مجدداً – متسلّلين من دار زغاوة، بلا إذن. لكنّها لن تسقط من تأريخ الحقبة البريطانيّة في السّودان. كما أنَّ السيّد على كرتي، الأمين العام للحركة الإسلاميّة، ووزير الخارجيّة الأسبق، ومنسق الدّفاع الشّعبي، سابقاً، لم يعرف بأنَّ شجرة شيخ العرب في رفاعة قد كبُرتْ، وهو أمرٌ – لا شكّ – مؤسف.