حرب السودان.. المرض المناعي في امبراطورية الشر!
رشا عوض
شهدت في التاسع من يوليو عام 2011 بام عيني في مدينة جوبا لحظة انزال علم السودان رسمياً وتدشين جمهورية جنوب السودان المستقلة!
كانت لحظة رهيبة مهيبة محتشدة بالدروس والعبر ودموع القلب!
لا أدري كيف مرت تلك اللحظة مرور الكرام على غالبية السودانيين!
نعم شاركت الجنوبيين احتفالهم بخلاصهم، وتمنيت أن يكون بالفعل خلاصاً حقيقياً يطوي صفحة معاناتهم ممثلة في الحروب الطاحنة والقتل المجاني والتمييز على أساس الهوية العرقية أو القبلية، ووطأة الاستبداد والفساد والفقر والافقار ووووو
بكل أسف لم يتحقق للجنوبيين ما تمنيته لهم!
اشتعلت الحرب بين الرفاق في الحركة الشعبية صراعاً على السلطة أخذ طابعاً قبلياً فكانت المجازر والأهوال، ثم حبس الشعب بين خيارين أحلاهما المر: الدكتاتورية الغليظة أو الحرب الأهلية!
ولم يتحقق للشماليين الانفصاليين الكيزان ما تمنوه وهو سهولة الانفراد بحكم الشمال بقبضة مركزية من حديد!
اندلعت الحروب بشراسة في الجنوب الجديد: جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق فضلاً عن دارفور التي اشتعلت منذ 2003
أما الحرب المشتعلة حالياً فهي حرب التدمير الذاتي للسلطة المركزية “الأمنوعسكركيزانية”!
قوات الدعم السريع التي كان هدف نظام الكيزان من إنشائها هو حماية السلطة المركزية في الخرطوم من تمردات الجنوب الجديد تمردت على هذا الدور وشبت عن الطوق تماماً! ووجهت للسلطة المركزية أقوى ضربة في تاريخها! ضربة في القلب مباشرة! في القصر الجمهوري والقيادة العامة للجيش ومنظومة الصناعات الدفاعية!
قبل أن يهجم أصحاب العاهات الفكرية على حديثي هذا باعتباره تماهياً مع سردية الدعم السريع حول دولة 1956، لا بد أن أكرر ما كتبته منذ بداية الحرب وهو أن أي نتيجة إيجابية لو تحققت في ظل هذه الحرب، ستكون من تداعياتها وليس من مقاصد أي طرف من طرفيها، لأن الطرفين هدفهما السلطة العسكرية القابضة (أسوأ منتج لدولة 1956)، فأنا منذ بداية الحرب لم اشتر سردية حرب الكرامة لمعسكر الكيزان وجيشهم ولا سردية حرب دولة 1956 والحكم المدني الديمقراطي لقوات الدعم السريع.
هذه الحرب من وجهة نظري يمكن فهمها كمرض مناعي أصاب دولة 1989م وليس دولة 1956!، كما يتعرض جسم الإنسان لاختلالات في جهاز المناعة تجعله يهاجم الأجهزة الحيوية في الجسم ويتلفها جزئياً أو كلياً إلى أن يموت المريض لو لم يجد العلاج الناجع في الوقت المناسب، هذا بالضبط ما حدث لنظام الحكم المركزي القابض في نسخته الكيزانية التي قوامها ولحمتها وسداها المؤسسة الأمنية العسكرية! فقد أصابه مرض مناعي! إذ أن الدعم السريع بدلاً من حماية الامبراطورية الكيزانية ممثلة في دولة 1989 انقض عليها بشراسة وهاجم مراكزها العصبية! وجزء من الأجهزة الأمنية والعسكرية الكيزانية انضم للدعم السريع وعاونه في مهاجمة الأجزاء الأخرى من امبراطورية الشر هذه!
إنها أكبر عملية تحلل ذاتي لنظام عسكري في تاريخ السودان!
أكبر جريمة تضليل وغش واحتيال هي الزعم بأن هناك معركة وطنية يدافع أحد طرفيها عن الدولة وكيانها المؤسسي، لأن الدولة الوطنية التي ورثناها عن الاستعمار صبيحة الأول من يناير 1956 بخيرها وشرها لا وجود لها الآن! حتى حدودها السياسية تغيرت بانفصال الجنوب! إذ تم الانقضاض عليها بواسطة دولة الكيزان، أي دولة 30 يونيو 1989م التي أصابها المرض المناعي العضال المذكور أعلاه! وهي ليست دولة وطنية على الإطلاق بل هي تقويض كامل شامل لمعنى الوطن والوطنية! وغير قابلة للدفاع عن نفسها لأنها في حالة تحلل وتدمير ذاتي! ففي ذات الوقت الذي يطالب فيه الكيزان ومثقفوهم النافعون بالاصطفاف خلف الجيش لأنه يمثل كيان الدولة بل هو الدولة شخصياً، نجد أبواق الدعاية الحربية الكيزانية تردد أن الجيش به خونة وطوابير يبيعون المعارك وينسحبون لصالح الدعم السريع، وأثناء الاستنفار لمساندة الجيش نجد هذه الأبواق تشتم قائد الجيش بألفاظ بذيئة وتتهمه بالخيانة، والعاهات الإسفيرية الأمنجية التي تسخر من قائد الجيش وتمسح به البلاط تتم استضافتها فيما يسمى بالتلفزيون القومي ويتم تكريمها من ذات الجيش!
أي جنون هذا! وأي معركة كرامة هذه! وأي جيش هذا الذي يكرم من يشتمون ويخونون قائده! ويأتي من يطالبنا بالاصطفاف خلف ذات الجيش غير المصطف خلف قائده!
ورغم دراماتيكية كل ما يحدث ما زال آل البوربون يقرأون من ذات الكتاب وذات الصفحة!
يلتمسون الحل في تقسيم جديد للبلاد يفصل دارفور ومعها كردفان إن لزم الأمر للانفراد بسلطة مركزية عسكرية قابضة فيما يسمى بدولة البحر والنهر!
ودا “شعراً ما عندهم ليهو رقبة” حسب معطيات الميدان العسكري!
سينتهي بهم الأمر إلى جمهورية الأحجار الكريمة!
وحتى هذه في حيص بيص! لأن الدعم السريع هاجم حجر العسل مراراً!!
الدرس المستفاد من تجربتنا الوطنية القاسية هو أن الحل الانفصالي ليس حلاً لمشكلة المركز (والآن لا يوجد مركز، فالخرطوم سقطت، ولكن لا بأس من تخيل وجود مركز وهمي في بورتسودان)، وكذلك الانفصال ليس حلاً للأقاليم التي تنفصل، لأن قادة الانفصال من لوردات الحرب ببساطة يمكن أن يعيدوا إنتاج سلطة المركز في أقاليمهم فلا يحققون لها عدلاً ولاً حريةً ولا تنمية.
المنقذ الحقيقي للشعب السوداني في كل أقاليم السودان هو الحكم الراشد الذي يقود لمعالجة الأزمات والعيوب الهيكلية في الدولة السودانية، فيحقق التوازن التنموي والعدالة الاجتماعية وحسن إدارة التنوع الإثني والثقافي انطلاقاً من فكرة المساواة في حقوق المواطنة.