غيلان على هيئة بشر وهجرة الجن خرافات من نسيج حرب السودان
من ضمن ما تداولته شبكات التواصل مقطع فيديو مشحون بالرعب بعنوان “غيلان السودان” يظهر فيه كائن غريب في هيئة إنسان أحدب طويل القامة والأطراف يهرول عارياً وسط ظلام كثيف.
لا يزال الناس يتساءلون عن أصل تلك الروايات المتداولة، هل هي حقيقة أم أحاديث مختلقة وجدت في مشاعر الخوف والعواطف المضطربة التي يعيشها الناس أرضاً خصبة للانتشار.
في ظل دوامة الرعب المحيطة بالحرب التي لا تنتهي، نبشت الاهتزازات النفسية وأجواء القتال من جديد خرافة الغول، وتداولت الأوساط السودانية بفزع وتحفظ روايات ومقاطع مصورة تزعم ظهور غيلان في منطقة كرري شمال أم درمان، كما انتشرت بسرعة كبيرة رسائل مثيرة تتحدث عن هروب أعداد كبيرة من الجن من السودان نحو دول مجاورة، وما بين الحقيقة والوهم احتدم جدل كثيف على مواقع التواصل الاجتماعي.
جدل الغيلان
من ضمن ما تداولته شبكات التواصل مقطع فيديو مشحون بالرعب بعنوان “غيلان السودان”، ويظهر فيه كائن غريب في هيئة إنسان أحدب طويل القامة والأطراف يهرول عارياً وسط ظلام كثيف في حركة أشبه بخطوات قرود الشمبانزي، ويترافق مع المقطع صوت نحيب أنثوي هيستيري مشحون بالفزع يبدو كأنه صادر ممن يقوم بتصوير المقطع.
استبعد البعض أن يكون المشهد من داخل السودان، ورأي آخرون أنه مصنوع تم تخليقه، وعلى رغم التشكيك فإن المقطع وجد حظه من الانتشار السريع مفسحاً المجال أمام مزيد من الإشاعات. وبدأ نسج كثير من الحكايات السوداء عن ظهور الغيلان، ولا يزال الناس يتساءلون عن أصل تلك الروايات المتداولة، هل هي حقيقة أم أحاديث مختلقة وجدت في مشاعر الخوف والعواطف المضطربة التي يعيشها الناس أرضاً خصبة للانتشار.
في محلية كرري يجزم عديد من السكان هناك أنه رأى حيواناً أو كائناً غريباً يمكن أن يوصف بأنه وحش، لكن سليمان نوح، أحد الأهالي، يقول إنهم يسمعون أصواتاً غريبة تشبه عواء الذئاب المتصل في كثير من الليالي. موضحاً أن مشكلة عدم توافر الغذاء وصعوبة الحصول عليه جعلت الكلاب في حركة دائمة بحثاً عن أي شيء تأكله بما في ذلك بقايا الجثث المتحللة.
لعل ما دفع الناس للتعاطي مع مثل تلك المقاطع كون الغول ليس غريباً عن السودانيين، فقد ظل حاضراً في الأدب الشعبي وقصص التراث السوداني، وتختزن مخيلة معظم السودانيين صورة ذهنية عن الغول نشأت وترعرعت داخل كل واحد منهم بشكل منفصل نتيجة الخبرات الشخصية والتصورات الخاصة، بحيث يمكن القول إن لكل منهم غوله الخاص.
تقول الأحجية إنه “ذات ليلة مظلمة اختطف الغول فاطمة السمحة وحبسها في كهفه داخل الغابة متوسداً ضفائرها الطويلة المنسدلة، وما إن علم الشاطر حسن بما حدث توشح سيفه وانطلق وراء الغول ليخلصها منه”.
في خضم رحلة بحث الشاطر حسن عن فاطمة، طاف على كل حيوانات الغابة من كل الأجناس والأنواع الطائرة والزاحفة والمتوحشة والأليفة في حوار خرافي يستوحي لغة كل حيوان من خلال صوته، مما يجعل القصة تطول وتطول حتى يستغرق الأطفال في النوم، وهكذا من جوف الأحاجي القديمة وجد الغول له مكاناً راسخاً في أذهان السودانيين.
هروب الجن
من جانب آخر، نقلت مواقع التواصل الاجتماعي عن أحد الشيوخ أن عفريتاً من الجن كشف له أن جميع أفراد قبيلته هاجروا خارج السودان، وأنه يعتزم اللحاق بهم، وذلك أثناء عمله على إخراج الجن من جسد إحدى الحالات التي كان يباشرها.
ويتابع الرجل، “على رغم أن أجزاء كبيرة من مدن سودانية أصبحت مهجورة وتشكل بيئة مثالية ليعيش فيها الجن، لكن الرعب الكبير من أصوات الأسلحة المستخدمة في الحرب تسبب له إزعاجاً شديداً يدفعه إلى الهروب بعيداً”.
وبحسب المتداول عن الشيخ، فإن البيئة العامة في السودان أصبحت غير صالحة للعيش سواء للإنس أو الجن، لكن آخر ما كان يتوقعه الناس هو هروب الجن من البلاد بسبب الحرب، مبيناً أن الجن غالباً ما يسكن الأماكن المهجورة والمنعزلة والبحار، لكن هناك مجموعات صغيرة منهم تجاور البشر وتقتات من بقايا طعامهم، قبل أن تجعل الحرب ذلك غير ممكن إثر هجرة البشر أنفسهم.
وفي شأن انتشار قصص الغيلان شمال أم درمان وما أكتنفها من جدل في تفاعلات مواقع التواصل الاجتماعي، يقول عباس أحمد الحاج المتخصص بالتراث والباحث في تاريخ السودان القديم، إن “الغول حيوان خرافي ذكر في الأحاجي السودانية وأشهرها أحجية (فاطمة السمحة)، وهي مأخوذة من حضارات ما قبل مملكتي (كوش) و(مروي) الممتدة في الحبشة وإثيوبيا، ومنها استمد الإغريق الحكاية نفسها وانتقلت أيضاً إلى تراثهم”.
يستبعد الحاج وجود غيلان في السودان، باستثناء تلك التي في مخيلة الناس، مرجحاً أن يكون مصدر الروايات المتداولة هو ملاحظة الأهالي بعض التغييرات في سلوك وتصرفات عدد من الحيوانات آكلة اللحوم بسبب تناولها الجثث البشرية، بخاصة من الفصيلة الكلبية أو القطط، فاعتقدوا نتيجة خلفيتهم الثقافية أنها هي الغيلان، لكنها في الغالب مجرد حيوانات.
خرافات قديمة
يرجع الحاج الخرافات والأساطير إلى حضارتي “كوش” و”مروي” قبل آلاف السنين، حيث استمدت الأحاجي السودانية التي يهدف معظمها إلى تنمية عقول الأطفال وتسليتهم قبل النوم. موضحاً “أخذت الحضارة الإغريقية الخرافة عن حضارتي (كوش) و(مروي) وجاء في كتب الإغريق حكاية (فاطمة السمحة) السودانية نفسها ولكن بأسماء مختلفة، فقد ذكر الرازي وابن معلوف وعدد آخر من العلماء أن (إندروميدا) ابنة ملك الحبشة (تيقاوس) التي تعرف بـ(المرأة المسلسلة)، كانت امرأة جميلة تم تقييدها بالسلاسل بسبب عنادها الشديد لتقديمها طعاماً إلى الغول. وفي روايات أخرى اختطفها (تنين البحر) لكن الفارس (بريشاوس) جاء وأنقذها، وقد أشار إلى ذلك أيضاً العالم السوداني عبدالله الطيب في كتابه (الأحاجي السودانية)”.
من جانبه يقول أحمد الرشيد عشنوق، معالج روحي، إن حكايات الغيلان ظلت متوارثة في الأدب الشعبي والتراث، غير ذكرها الغيلان في بعض الأحاديث النبوية، حيث روى عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال “إذا تغولت لكم الغيلان فنادوا بالأذان”، على رغم استضعاف بعض العلماء لهذا الحديث. وجاء في الأثر أيضاً أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما ذكرت له الغيلان قال إن “لا أحد يستطيع أن يتحول عن صورته التي خلقه الله عليها، ولكن لهم سحرة كسحرتكم، فإذا رأيتم ذلك فأذنوا”، ما يعني في النهاية أن الغيلان نوع من الشياطين يستطيعون بسحرهم أن يظهروا للناس بأشكال وألوان متعددة لتخويفهم.
وفقاً لعشنوق، فقد ذكر الإمام النووي أن “الغيلان هي جنس من الشياطين والجن تتراءى للناس وتتلون لهم، وهي بذلك نوع من أنواع الشياطين، وبعضها له أجنحة يطير بها، ومنها دواب كدواب الإنس. لكن الثابت وفق كل من الحديث والأثر أن الشياطين والجن ومنها الغيلان تخشى سماع الأذان وتفر منه”.
يرى المعالج الروحي أن الربط بين الغيلان ومناطق الحروب غير حقيقي وليس له أي سند سوى في قصص الأدب الشعبي والخرافات، لذلك فإن الروايات التي يتداولها الناس عن ظهور الغيلان مردها إلى حال الرعب والخوف التي يعيشونها. ناصحاً الناس بالبعد عن الهواجس والتحلي بقوة الإيمان وتحصين أنفسهم بالقرآن الكريم.
ملاذ كرري
منذ نشوب القتال قبل ما يقارب عاماً ونصف العام لم تهدأ المعارك وعمليات القصف المتبادلة في مدن العاصمة السودانية الثلاث (الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان)، بينما فر أكثر من 60 في المئة من سكان العاصمة المقدر بنحو 11 مليون نسمة، ولاذ أكثر من مليون شخص من المتبقين بالعاصمة في محلية كرري المجاورة لمنطقة “وادي سيدنا” العسكرية في أقصى شمال أم درمان، المقر الموقت لحكومة الولاية.
ويقدر المرصد السوداني الحقوقي، عدد القتلى المتزايد في العاصمة السودانية وحدها بما يفوق أربعة آلاف شخص، علاوة على جرح عشرات الآلاف منذ اندلاع الحرب بين الجيش وقوات “الدعم السريع” في منتصف أبريل (نيسان) من العام الماضي.
اندبندنت البريطانية