أكاذيب صغيرة
بدون زعل
أكاذيب صغيرة
عبد الحفيظ مريود
صديقي السّر السّيّد كان يعدُّ برنامجاً ويقدّمه عبر إذاعة “بلادي”، أو إذاعة “الحياة”. طلب استضافتي لمناقشة مقالات كنتُ كتبتُها تحت هذه الزّاوية “بدون زعل”. قرّر أنْ نبدأ بتفكيك العنوان، نفسه. بدأنا. بعد ثلاثة أو أربعة أسئلة، تحوّل السّر السيّد من محاور إلى “مدافع”. وقد زعل جدّاً. قلتُ في جزء من إجابتي إنَّ المك نمر، مكّ الجعلين، “جرى” حين عاد محمّد بك الدفتردار، صهر الباشا، ليؤدّبه جرّاء قتله اسماعيل باشا. استشاط السّر غضباً. في محاولة هجمة مرتّدة سألني “طيّب عبد الله التعايشىّ برضو جرى”. قلتُ له “لا شكَّ في ذلك.. التعايشىّ جرى من جيوش كتشنر، وهو يعلم أنّه لم يكن يفرُّ ليلملم بقايا جيشه ويعود للقتال.. وأكثر من ذلك: بعد 16 عاماً جرى السّلطان على دينار، أيضاً”.. هناك ما يشيرُ إلى أنَّ السلطان على دينار كان يعمل تحت إمرة الإنجليز، منذ البداية.
شايف كيف؟
نصحتُ صديقي الأستاذ السّر السيّد ألّا يبثّ الحلقة. ستقدحُ – وهو مؤكّد – فى مهنيّته. الواقعُ أنَّ الكثيرين يظنّون أنَّ “مسألة الجري” هذه تقدحُ في “تأريخنا المجيد”. الحرصُ على السّمعة هو ما يقودنا إلى ذلك. لكنْ دعنا نتقدّمُ قليلاً في المسألة. التأريخُ يخبرنا بأنَّ الشايقيّة – كقبيلة – نفضوا يدهم من سلطنة سنّار مبكّراً. حدث ذلك في 1690م. لم يعُدْ للعبدلاّب سلطة عليهم. شيئاً فشيئاً، رأى الشّايقيّة أنْ يتمدّدوا شمالاً. غاروا على الدّناقلة، خرّبوا دنقلا العجوز، زحفوا إلى المحس. اضطر ملوك النّوبيين على مصالحة الشّايقيّة، ودفع جزية لهم تعادل نصف دخل بلاد النّوبة. اضطرّت القبائل المجاورة لهم إلى الهجرة، إلى بربر، كردفان ودارفور.
لكنَّ جاويش الكبير، قبيل دخول اسماعيل باشا أغار على مملكة “الدُّفار”، وهي مملكة جيرانهم البديريّة، فدمّرها تماماً. ثمَّ لم يكتفِ بذلك، بل غزا الميرافاب، المناصير، الرّباطاب. وحين جهّز ملك “أرقو” جيشاً ليرتاح من سطوة الشّايقيّة، وسيّره إليهم، دحر الشّايقيّة الجيش في معركة ” جبل الضّيقة”.
شايف كيف؟
جاء اسماعيل باشا (تبدو بسمةٌ في شفتيه). واجهه الشّايقيّة في “كورتى” وبعض المعارك فهزمهم. هناك حكايات عن “تقطيع الآذان” ليست بذات قيمة. جاويش بما تبقّى من جيش ذهب يطلب النُّصرة والفزعة. وصل حتّى شندي والحلفايا، طالباً فزعة الجعلين والعبدلّاب. لكنَّ جهوده باءت بالفشل، فعادَ ليصالح اسماعيل وينضمّ ومن بقىَ معه للحملة “التُّركيّة” إلى سنّار وكردفان.
شايف؟
سنوات التّركيّة التي تعدّت الستين عاماً، هي التي خلقتْ شبح الدّولة السّودانيّة. بعض المناطق لم تدخل تحت سلطان التّركيّة، قطّ. بعضها دخلتْ مؤخّراً. لكنَّ الشاهد هنا، هو انَّ جهات السُّودان الأربع أو الخمس، تحملُ بذور عنفها الدّاخلي في خلاياها. ليست نسيجاً واحداً. متّى ما خلتْ إلى ذاتها ستنفجر. تماماً كما حدث للجنوب. فقد كانت توحّده فكرة عدو مشترك هو الشّمال. لكنْ بعد حصوله على دولته، اكتشف أنَّ (انسجامه) كان هشّاً، فخّاً، بإزاء آخر. وجد سطوة الدّينكا، متستّرةً وراء الجيش الشّعبىّ والحركة الشّعبيّة وجهاز الدّولة. ثمّة انقسامٌ جنوبىّ قادم بين الاستوائيين والنّيليين. العنف المؤجّل ذاك، تدفنه تناقضات الواقع وتؤجّله، ليس أكثر.
السّؤال:
لماذا رفض الجعليّون والعبدلّاب نُصرةَ الملك جاويش حين دحره اسماعيل باشا؟
لماذا في سياق إنشاء سدّ مروي، والمشاريع المصاحبة، تتفتّقتْ وردةٌ حمراء، حين جرى تسريب أنَّ أسامة عبد الله يعملُ على نقل عاصمة الولاية الشّماليّة إلى “مروي”، بدلاً عن “دنقلا”؟ لماذا ما يزال البعض يعتقد بأنَّ نقيب المحامين، ووالى الشّماليّة، الذي لقىَ حتفَه في حادث حركة، بأنَّ الحادث مدبّر؟ لماذا يعتقد البعض – أيضاً – بأنَّ حادث النائب الأوّل للبشير، الزّبير محمّد صالح مدبّر؟ شخصيّاً، خلال جلسات مع موسى المك كور، في جوبا، مقتنعٌ بأنَّ الحادث قضاء وقدر. دعك عن احتجاجات المناصير فيما يتعلّق بتعويضات سد مروى، والتي لم تخلُ من إشارات بطرف خفىّ إلى التطفيف مقارنةً بجيرانهم الشّايقيّة..لم يكنْ ذلك موجّهاً إلى (الدّولة) إلّا بقدرما تستطيعُ أنْ تدرأ عنهم قسمةً ضيزى، ضاربة في التأريخ..النّوبيون وقفوا “ألف أحمر” بشأن سدّ كجبار..ذكّرهم بالسدّ العالي..ثمّة نغمة حسّاسة تقول بالحفاظ على (الثقافة النّوبيّة)، فيما مقابل “ثقافة ولغة” غازيتين. وهى نغمةٌ تُحيلُ إلى سطوة وسيطرة جرى اختبارهما نوبيّاً..أليس كذلك؟
المشهد العمومىّ يغطّى على التناقضات الدّاخليّة المفضية إلى العنف. ليست التناقضات السياسيّة أو الأيديولوجيّة. بل القبليّة والإثنيّة. ينطبق ذلك على مستوى شمال السّودان، شرقه، دارفور الكبرى، كردفان الكبرى، وسط السُّودان التقليدىّ. التناقضات التي يتمُّ القفز عليها حفاظاً على المصالح المتوهّمة. لذلك فإنَّ أىّ محاولات لبناء سودان ما بعد الحرب محفوفة بالمخاطر هذه. ليس هناك من (ذات جهويّة) واحدة، دع عنك (ذات قوميّة).(الذاتُ الجهويّة)، في كل السّودان هي محضُ أكاذيب لا يجبُ التعويلُ عليها. إذا ما خلتِ الأقاليمُ والجهاتُ إلى نفسها، انتفتِ المخاطر و(التهديدات الخارجيّة)، فإنّها ستكتشف أنّها تعيش أكاذيب ممضّة، ستخرجُ من كمونها إلى حيّزات جديدة من العنف المدمّر.
ذلك يتطلّب حفراً يتجاوز الظّواهر والقشور العاطفيّة التي عمل على تصويرها الغناء وبعض المشتركات.
شايف كيف؟