بدون زعل
ظروف بتعدّى..ما تهتموا
عبد الحفيظ مريود
في العام 2017م، طلبتْ منّا القوات الخاصّة، التّابعة للجيش، إنتاج فيلم وثائقىّ عنها. شركتُنا “أوتِرِكْ” – التي تعني: القمر بلغة البداويت – شركةٌ صغيرة متواضعة، تقعُ في الطّابق الثالث من عمارة طلب بالخرطوم بحري. الوسيط قال إنَّ قائد القوات الخاصّة، يطلب كاتب السّيناريو، شخصيّاً، ولا تكفي المعلومات المكتوبة التي تمَّ تزويدنا بها. أرسل سيّارة بلوحات ملكيّة، فذهبتُ إليه في معسكر وقيادة القوّات الخاصّة، شمال أمدرمان، وسط الجبال.
القائد كان ضابطاً برتبة العقيد. اسمه الشّاهر عيسى الطّالب. كان ودوداً، مهذّباً ودقيقاً. بعد التنوير الضافي، ما يجب أنْ يُقَال وما لا يُقَال. ما يجب أنْ تعرفه أنت، وما يجب أنْ تكتبه، وجّه مدير معهد التّدريب، المقدّم الفادنىّ، بمرافقتي في جولة على معهد التدريب، برامج التّدريب، وما إلى ذلك. من خلال الجولة بالمعهد، والميدان، لاحظتُ أنَّ المتدرّبين كلّهم من شباب قوات الدّعم السّريع. سألتُه “……؟”. أجاب بأنَّ هذه هي الدّفعة الكذائيّة منهم. يأتوننا خام، رؤوسهم ناشفة، نتّبعُ معهم منهج (الخير يخصّ..والشّرُّ يعمُّ). حين يغلط الواحد منهم، نعاقبُ المجموعة كلّها.. حين يقضون فترتهم يكونون قد أحكموا “العسكريّة”..
شايف كيف؟
ضمن التنوير، كانتِ القوّات الخاصّة هي التي صنعتِ الفرقَ في معارك تحرير هجليج من جيش جنوب السُّودان، عام 2012م. من بين مَنْ تولّى قيادتها: الزّبير محمد صالح، بكري حسن صالح، وأسماء لامعة، أخرى. ركبتُ مع السّائق ليعيدني إلى عمارة إبراهيم طلب ببحري. كان مساعداً في الجيش. الطريقُ طويلةٌ ولابدّ أنْ نتحادث. في كشفه، تنويره الخاصّ، لي، أخرج ورقاً من درج السيّارة ليثبتَ لي أنَّ عمل القوات الخاصّة شاقٌّ جدّاً، ولا يحتملُه إلّا الرّجال. كان – وهو يقود – يطلب منّى تقليب الأوراق وقراءتها. من الأسلحة والوحدات، في القوائم، ثمّة فقط 11 عسكريّاً سجّلوا أسماءهم للانضمام إلى القوات الخاصّة. طبيعة التدريب الشّاق والمستمر، لا تدفع أىَّ عسكرىّ للتسجيل في القوات الخاصّة. الانضمام إليها طوعىّ، من حيث موقعك العسكرىّ. لا يتمُّ تجنيد عساكر لها، من الشّارع. لابدّ أنْ تكون عسكريّاً، أوّلاً، ثم تنضمّ إليها. سألتُه “ولماذا لا يرغبُ فيها العساكرُ، عادةً؟”. أجابني “لأنّها تمنعكَ عن مزاولة أىّ عمل آخر، بسبب برنامجها التّدريبىّ، والعساكرُ يرمّمون حيواتهم بأعمال أخرى، إذْ لا يكفيهم المرتّب”.
شايف كيف؟
صنعنا وثائقيّاً من الطّراز الأوّل. عثمان عكاشة مصوّر فنّان، يكبّلُه المخرجون قصار القامة. حين فرغ من التّصوير، قال لي حين يأتي فني المونتاج، قبل أنْ يشرع في أىّ شيء، دعه يكلّمني. “ح أريّحو ليك في المونتاج”. ذلك أنّه صوّر جملاً بصريّة كاملة، وليس مجرّد لقطات من برامج التدريب المختلفة التي نفّذها مدير وطلّاب معهد التّدريب.
لنراجعِ الأمرَ، إذن…
يُعجبُكَ أنَّ عرب الشتات أميّون في كلّ شيء. لا يحسنون العسكريّة ولا المدنيّة. جاءوا من “الخلا”، وينبغي أنْ يعودوا إليه، لتنعمَ بحياتكَ الهادئة اللطيف. في أحسن الأحوال: يجب أنْ يذهبوا لحراسة الحدود. قطّاع طرق، نهّابون، سرّاقون، سكنوا بيوتنا، سرقوا ذهب نسائنا، عرباتنا، اغتصبوا (في الاغتصاب، عادةً، لا يُقَال اغتصبوا نساءنا)، ويجب إبادتهم من الوجود.
حسناً…
هذا ليس قولكَ أنتَ. هذا يقوله القائد العام للجيش، الفريق أوّل عبد الفتّاح البرهان، وعموم الضبّاط العظماء. سواءً أكانتْ كُلفة إبادتهم ومحوهم من الوجود موت آلاف المدنيين وتهجيرهم، أم كانت كلفة أقلّ، يجرى فيها قتل الدّعامة فرداً فرداً. فمعركة الكرامة ستستمرّ، حتّى ولو قاتلنا مائة عام، على حدّ قول الفريق ياسر العطا.
انطلقتْ سخريّات لذيذة، حين تسرّب أنَّ الدّعم السّريع استخدم الطائرات المسيّرة، لأوّل مرةٍ، في معارك المدرّعات الأولى. “هؤلاء الواحد منهم يعجزُ عن استخدام الهاتف الذكي..تقول لي مسيّرة؟!”. لكنَّ الواقع أنّه – بعد عام ونصف العام، تقريباً – لا تزال الأوضاع على الأرض عصيّة بالنّسبة للجيش. خلال عمر الحرب، كان يخسر ولا يكسب، باستثناء معارك أمدرمان القديمة. لكنَّ الدّعم السّريع يقف على تخوم الدّمازين، تخوم القضارف، ولم تعدْ ولاية نهر النّيل من (الولايات الآمنة).
شايف كيف؟
ثمّة عبارة شبه رسميّة (تمَّ القضاء على القوّة الصّلبة للدعم السّريع.. وما تبقّى جزر معزولة تفتقر إلى القيادة). وهي عبارةٌ مخدّرة. ستثلجُ صدرَك، بالتأكيد. لكن ما أنتَ لستَ على يقينٍ منه، هو ما إذا كان التدريباتُ الخاصّة، للنّخبة ولغيرها، التي تمّتْ على أيدي خبراء الجيش، والخبراء الأجانب، قد ذهبتْ إلى المقابر أم لا. هل في مقدورها أنْ تقاتل المائة عام القادمة أم لا…طوّرت قدراتها أم ما تزال حيث تركها الخبراء…لكنَّ خبراً قبل شهور كان يقول إنّ الفادني يرقد جريحاً في مستشفى شندي..مدير معهد التّدريب.
لماذا عليك أنْ تقاتل مائة عام أخرى؟
بل لماذا عليك أنْ تقاتلَ ليوم إضافىّ واحد؟
لتستردَّ سيّارتَك؟ ذهب زوجتك؟ أثاث بيتك؟ “كرامتكَ”، كونكَ خرجتَ منه خائفاً، ولم تحمل إلّا ما خفَّ، وصرتَ لاجئاً أو نازحاً؟ كلُّ ذلك لن يعود ..ما بعد الحرب، لنْ يُعيدَ لك ما قبلها.. هذا إذا كنتَ تقاتل، وليس إذا كنتَ مثلي جالساً تقرأ ما أكتب.
شايف كيف؟
ما يعيد لك حياتَك.. ما يستأنفها لك، أو يرمّمها هو السّلام..
لا غيره.