جعفر سفارات.. جعفر ميرغني
بدون زعل
جعفر سفارات.. جعفر ميرغني
عبد الحفيظ مريود
فى النّصف الأوّل من التسعينات كنّا نسكنُ “عزّابة” في السجّانة شرق، قريباً من شارع الصّحافة زلط، وليس بعيداً عن حديقة القرشىّ. العيش قاسٍ وشظف. كنّا نذهب إلى “حاجة نزهة” الإرتيريّة السمحاء، قريباً من طلمبة الغالي، نتشارك وجبة “زغني” وحيدة، خلال اليوم، تقشّفاً. الزغنى يملأ البطن. نأكله منتصف النّهار، أو عصراً، فيمسكك حتّى اليوم التّالي.
كان برنامج د. جعفر ميرغني في الإذاعة السّودانية “أضواء على الحضارة السُّودانيّة” قد أصبح شهيراً. أو لنقلْ، نافذة يطلُّ منها “العامّة” من أمثالنا على المعارف. استمرَّ وضعنا التقشفىّ زمناً، كما توسّعتْ معارفنا حول الحضارة السُّودانيّة قليلاً. مجاهد أحمد النّور، شيخنا (خلف والده، فيما بعد، على سجّادة التجانيّة في أم دم حاج أحمد، شمال كردفان) كان – وما يزال – رجلاً ساخراً، جدّاً. كان لا “يعوم” كثيراً مع د. جعفر ميرغني. ذات مرّة، كان يوضّحُ موقفه منه، قال (أدلّة جعفر ميرغني دي عاملة زي كدا: لو جا ولقانا مرتبطين ارتباطنا دا بالزّغني، وعرف إنّنا من كردفان، ح يقول طوااالي هناك علاقة بين سكّان كردفان والحبشة، لأنو لقيت جماعة منهم مدمنين على الزّغنى).
شايف كيف؟
وحين عاد وفد المقدّمة، التّابع للشريف زين العابدين الهندىّ، أعادت جامعة الخرطوم البروفسير على عثمان محمّد صالح، إلى كلاسيّه بقسم الآثار. و”عم على” ساخرٌ من الطّراز الأوّل. متطعمج فنّان.. في “ونسة” في مكتبه، أو مكتب بروف انتصار الزّين، قال لي “تخيّل لقيت جعفر ميرغني متحشر في القسم هنا؟”.
في 2005م، كنّا في زيارة ضمن وفدٍ “رفيع المستوى” إلى مجموعة الأزمات الدّوليّة، ببروكسل. اعترض د. جعفر ميرغني على حديث مدير المعهد حول (جرائم الحرب وغيرها في دارفور). سأله المدير:
-عفواً.. قلت لي ما هو تخصّصك؟
=أنا أستاذ لغويّات.
-ما هو منصبك في الحكومة السّودانيّة؟
=أنا مدير معهد حضارة السُّودان؟
-متى كانت آخر زيارة لك إلى دارفور؟
=ماماماماماما…..
هزّ الخواجة رأسه، قائلاً (أستاذ لغويات، مدير معهد حضارة السّودان، لم يزر دارفور، ويجادل حولها؟!…لنتحدّث، إذن).
شايف كيف؟
و”شيخ على” حين وجّه بتأسيس “معهد حضارة السّودان”، وجعل د. جعفر ميرغني على رأسه، لم يجد له مقرّاً. فوجّه – مرةً أخرى – بأنْ يكون “متحف السُّودان للإثنوغرافيا” مقرّاً له، إلى حين تدبير الوضع. تحوّل المتحف إلى مكتب ومسكن ومستعمرة للدكتور.
ذهبت الإنقاذ، عبر ثورة ديسمبر، أو “انقلاب أبريل”، كما يحلو للبلابسة أنْ يقولوا. تشكّلت الحكومة الانتقاليّة، وجاء فيصل محمد صالح وزيراً للثقافة والإعلام. في تفقّده لـ “توابع الوزارة”، وجد أنَّ “متحف السّودان للإثنوغرافيا” من بينها. تعامل مع المعلومات المكتبيّة عنه. قرّر أنْ يسجّل له زيارة رسميّة.. أخذ طاقمه الوزارىّ وذهب.
الخفير فتح الباب الخارجىّ، الذي كان مغلقاً بجنزير وطبلة مرميّةٍ إلى الدّاخل. عرّفه الوزير بنفسه، وطلب التفقّد. قال الخفير إنَّ تعليمات الدّكتور تقضى بعدم إدخال أىّ شخصِ، مهما كان. حين أوضح الوزير ضرورة إيقاظ المدير، ومقابلته، عادَ ومعه الدّكتور، مدير المعهد، في سرواله وعرّاقيّه. بدأ كأنّه لم يسمع بالثورة، ولا بالحكومة الجديدة، ورفض أنْ يستجيب لأىّ طلبات “محترمة” من الوزير، بضرورة إخلاء المتحف. الوزير أمهله – بأدبه الجمّ – ريثما يلملم “أغراضه” ويغادر…لكنَّ الدّكتور رفض وتحجّج.
شايف كيف؟
بعد فترة، مهلةٍ كافية، وإخطارٍ آخر.. جرى إخلاء الدّكتور، مدير معهد حضارة السّودان، بالقوّة “المعقولة”. كان الوزير يخطّط لإعادة المتحف إلى ما كان عليه. ثمّة ميزانيّات سنويّة – بالطّبع – تذهب إلى معهد حضارة السّودان. بمثلما كانت هناك ميزانيّات لمتحف الإثنوغرافيا…حتّى ولو كانت “هزيلة”.
شايف كيف؟
كنتُ أفكّرُ : هل ظلم شيخ مجاهد – دامتْ تأييداتُه – الدّكتور، العالم ، المحقّق، الجهبذ؟ هل ظلمه بروف على عثمان “عم على” بطعمجته الحارّة؟ هل ظلمه مدير معهد الأزمات الدّوليّة؟ هل ظلمه الوزير فيصل محمّد صالح؟
أم ظلموا جعفر سفارات؟
شايف كيف؟
أفتكر المسألة فيها “إنَّ”..
إنَّ كدا، وتنوّر..
يا قمرْ مِدوّرْ.