كيف ترغبُ أنْ تكون قهوتُك؟
عبد الحفيظ مريود
يصرُّ أستاذنا محمد محمد خير، “من أقاصي الدّنيا”، أنْ يردّدَ (العرب في دارفور ما عندهم مشروع سياسىّ..الزّرقة هم من يملكون ذلك). وذلك انطلاقاً من خبراته كجزء من مفاوضات أبوجا، على أيّام المرحوم مجذوب الخليفة، رئيس الوفد. المفاوضات التي جاءت بأركو منّاوى كبيراً لمساعدي رئيس الجمهوريّة، عمر البشير، عام 2006م، بعد ثلاثة أعوام من انطلاق أزمة دارفور.
لقد رغبتُ مراراً، ونحن نلبّى دعوة أستاذنا محمد محمّد خير، لدعوات “الشّيّة” في “أولاد أمدرمان، في الرّكن الجنوبىّ الشّرقىّ لمطار الخرطوم – عجّل الله بناؤه في دولة السّودان الجديد – أنْ أسأله ما إذا كان قد عرف في التأريخ الحديث للسّودان مشروعاً سياسيّاً على أساسٍ عرقىّ أو قَبَلىّ. كيف تقطعُ بأنَّ (عرب دارفور) هم نسيجٌ واحد، مشربٌ واحد، يتوجّبُ أنْ يؤسّسوا لمشروع سياسىّ؟
شايف كيف؟
قبل أقلَّ من عامٍ على قيام حرب الخامس عشر من أبريل، بين الدّعم السّريع، والجيش، كانتِ العبارةُ حاضرةً بكثافة في أحاديث الأستاذ. بمثلما كان حاضراً اسم (على كرتي)، عرّاباً للمرحلة القادمة من تأريخ السُّودان. وذلك من خلال تسوّيّاتٍ حريفة، جرتْ وتجرى فيما يتّصل بالمحور الخليجىّ، أمريكا ومصر. لا يُخفى أستاذنا تبرّمه وتأفّفه من الحريّة والتغيير. كما لا يخفى مساندته للتوجّهات العسكريّة التي أسّس لها انقلاب 25 أكتوبر، معتبراً (المكوّن العسكرىّ) كتلةً واحدة.. ليس وارداً أنْ يعتريَها انشقاقٌ، بلَه احتراب.
الكسلُ النّخبوىّ يضعُ القراءات المستقبليّة داخل نفق ضيّق، حالك الظّلمة. لقد جرى تأسيسُ “التسويّات” المستقبليّة للسّودان على معلومات سكونيّة. على (حقائق هشّة)، لم تُراعِ “إمكانية التحوّل، التغيير، الإنفلات”. بالطّبع تركنُ القراءة إلى تأريخ المهديّة، وما تلاها من ولاءات لطائفة الأنصار لدى أغلب سكّان الغرب، ودارفور، تحديداً. إضافةً إلى أنَّ المتعلّمين الأوائل، والأكثر انخراطاً في سلّم التعليم كانوا من غير العرقيّات العربيّة في دارفور. جبهة نهضة دارفور هي الحجر الرئيس في بناء التصنيف النّمطىّ للقدرة على امتلاك “مشروع سياسىّ”. خروج داوود يحيى بولاد وانضمامه للحركة الشعبيّة بقيادة د. جون قرنق، إدخاله للنضّال المسلّح في دارفور، تصدّى عربان الهبّانيّة والبنى هلبة له، انتصاراً للحكومة المركزيّة، سيعمل على تعضيد النّظرية. عرب دارفور قطيعٌ يتبعُ للسياسات المركزيّة، فيما سيكون “الفكر السياسىّ، المشروع السياسىّ” حكراً على “قبائل الزّرقة”. منذ 2003م، بدا أنَّ الحركات النّاهضة ضدَّ الحكومة المركزيّة، هي جماع تحالفات لقبائل الزّغاوة، الفور، المساليت، الميدوب، وإلى حدّ ما، البرتى. لقد جرى تجييش “عرب دارفور” للتصدّى للكفاح المسلّح للحركات تلك. ابتداءً من قيادة موسى هلال للفرسان، وصولاً إلى “حرس الحدود”، و “الدّعم السّريع”.
شايف كيف؟
التنميط النّخبوىّ الكسول، جعل الحسابات مخجلة، شديدة التّهافت، إزاء تعريف حرب 15 أبريل والتعامل معها. وذلك هو سببُ التخبّط المستمر في الانتقال من “انقلاب الدّعم السّريع”، إلى “تمرّد الدّعم والحريّة والتغيير”، إلى “المليشيا القبليّة” إلى “مليشيا آل دقلو”، إلى “عملاء الإمارات”…الخ.
لا يتصوّر الكسلُ النّخبوىّ إمكانيّة أنْ تنفتح تشكيلات قبليّة أخرى، أو تشكيلاتٍ مدنيّة أخرى (حزبيّة وغير حزبيّة) على الدّعم السّريع. وبالتّالي فإنَّ طرق “معالجات الأزمة” تصبح جميعها غير ذات جدوى. لا سيّما حين يتعاملُ العالم مع “معطيات السّودان، وحقائقه الماثلة” بطرق تستخف وتستبعدُ تلك النّظرة التقليديّة.
منذ بدء الحرب، لم يعلن قائد الدّعم السّريع لاستنفار، قطّ. على غرار ما فعلت قيادةُ الجيش والحركة الاسلاميّة التي تتبنّى “معركة الكرامة”. لكنَّ مقاتلي الدّعم السّريع في زيادة مضطردة. ستتفاجأ بالمنضمين إليه في ولايات سنّار، النّيل الأزرق.. وستندهش حين تجدُ أنَّ القضارف، كسلا قد أصبحتا خارج “دولة بورتسودان”، وخارج “الولايات الآمنة”. وهي مسألة تحتّم إعادة النّظر في تعريف الحرب، وإعادة النّظر في (حقائق السُّودان) التي باتت جزءً من التاريخ.
ذلك أنَّ المعركة الآن معركة جهل نخبوىّ كلّى، شامل، من شأنه أنْ يعصف بكلّ شيئ، كنتَ تعرفه.
شايف كيف؟
مرةً عاشرة، يتجلّى الكسل النّخبوىّ، عسكريّاً، حين يضع الفريق ياسر العطا شروطه للتفاوض مع الدّعم السّريع: الانسحاب من المدن التي دخلها، التجمّع في معسكرات يحدّدها الجيش، ثم تسليم الأسلحة الكبيرة. لا يستطيع العطا – بغبائه النّخبوىّ – أنْ يميّز أنَّ الدّعم السّريع طرده من تلك المدن والولايات.. بل من قيادته العامّة.. ووضعُ شروطٍ للتفاوض من قبل الجيش لا يعدو أنْ يكون استمراءً للغباء العميم.
ماذا أريد أنْ أقول؟
لا يبدو أنَّ لـ “عرب دارفور” مشروعٌ سياسىّ.. ذلك صحيح. لكنَّ ذلك لا يعنى عدم قدرتهم على الانخراط في مشروع كبير يتخلّق.. تمثّل الحرب الدائرة هذه رأس الرّمح فيه. وليس بالضّرورة أنْ يعي الدّعم السّريع دوره في التغيير العميق والهائل الذى سيشهده السّودان.. لكنّه يؤدّى دوره بكفاءة، ستجبرُ “النّخب” جميعها على إعادة شحذ أدواتها وتغيير نظم إنتاج المعرفة لديها.
ستثبت السنوات القادمة ذلك.
شايف كيف؟
*ملحوظة:
الصّورة لا تحتاج إلى تعليق.