النور حمد: رغم مأساة الحرب فإنها ستكون الجسر المفصلي الذي ستعبر منه البلاد
النور حمد: رغم مأساة الحرب فإنها ستكون الجسر المفصلي الذي ستعبر منه البلاد
أجرت صحيفة إدراك الإلكترونية حواراً مع المفكر السوداني الأكثر شجاعة وشفافية في الازمة السياسية التي تجلت في حرب ضروس بين الدعم السريع والجيش بتحالفاته من الحركات المسلحة وكتائب الحركة الإسلامية والمستنفرين قبلياً وايدولوجياً ؛حيث أفاض دكتور والباحث “النور حمد” في تحليلات عميقة وشفافة استطاع سبر غور محاور اللقاء التي تمثلت في تناول الإعلام الإخواني للحرب بي ازدواجية المعايير وانتشار خطاب الكراهية وكيفية مواجهته وكيف يؤسس السودانيين جيش قومي ، علي أنقاض الجيش المؤدلج والذي يحمي مصالح الطبقات الاجتماعية ومستقبل الإخوان والتحالفات في المشهد السياسي ورؤيته عن العلمانية _ كل المحاور اعلاهـ التي طرحناها له أجاب عنها بالتحليل الفكري والسياسي العميق والشفافية التي يتحلى بها المفكر السياسي د. النور حمد.
الحرب هي تقويض القانون حيث تمنح الفرد العسكري إطلاق النار وفق تقديراته
*ماهي رؤيتك التحليلية لإزدواجية المعايير فيما يتعلق بالانتهاكات المصاحبة للحروب في السودان؟
الانتهاكات والتجاوزات سمةٌ ملازمةٌ لجميع الحروب، ليس في السودان وحده وإنما في كل أنحاء العالم وعبر كل العصور المختلفة، وأسوأ الحروب هي الحروب التي يشعلها طرف ما على طرف داخل البلد الواحد، وهي ما تسمى بالحرب الأهلية؛ هذه الحروب التي تجري داخل البلد الواحد تفتح أوسع الأبواب للانتهاكات، وعمومًا فإن الحرب تعني – من الناحية العملية تقويض حكم القانون، فالحروب والتوترات والاضطرابات الداخلية يصحبها عادةً وفي أحسن الحالات، إعلان لحالة الطوارئ. وإعلان حالة الطوارئ تعني تعليق حكم القانون وإخضاع كل شيء للتقديرات العسكرية تمنح حالة الطوارئ الفرد العسكري سلطات تقديرية تصل حد إطلاق النار، وفقاً للتقديرات الميدانية لذلك الفرد؛ سواء كان من قوات الشرطة أو قوات الجيش أو من الأجهزة الأمنية، كما تمنحه أيضاً – حصانة من المساءلة القانونية، لا يجدها عادةً حين يكون حكم القانون قائماً .
الحرب بهذه السمات التي ذكرناها تفتح الباب واسعاً للتجاوزات، بما في ذلك القتل غير القانوني والاغتصاب والنهب وغير ذلك؛ لذلك من يشعل الحرب عليه ألا يشتكي إطلاقًا من الانتهاكات والتجاوزات، لقد أشعلت كتائب الإسلاميين الحرب لضرب قوات الدعم السريع لأنها وقفت مع الاتفاق الاطاري، وهذا ما أثبتته إفطارات رمضان المصورة والموجودة على تطبيق يوتيوب، بسبب سوء التقدير وعدم التحسب للعواقب فشلت.
لقد تحول الجيش السوداني الي مليشيا تخدم تنظيماً عقائدياً تقوم عقيدته في الأساس على أن ألا بأس أن يقتل المرء مخالفيه في الرأي ؛ منذ أن قام الإسلامويون بانقلابهم المشؤوم على النظام الديمقراطي
ولكن ألا توافق أن التركيز الإعلامي على انتهاكات الدعم السريع دون الطرف الآخر في الحرب بات واضحاً؟
لو نظرنا إلى التسليط الكثيف للضوء على انتهاكات قوات الدعم السريع، فإننا نجده تسليطاً انتقائياً أحادي الجانب، لا يتعدى كونه جزءاً من بروباغندا الحرب التي تقف وراءها الاستخبارات العسكرية وجهاز الأمن، يعاونهم في ذلك أُجراؤهم من إعلاميي النظام البائد؛ لكن ما من لا شك أن قوات الدعم السريع قد قامت بانتهاكات وبعض هذه الانتهاكات مصورٌ ومنشورٌ، ولا يستطيع أحدٌ إنكار ذلك، بل إن قيادة الدعم السريع نفسها، لم تنكر وقوع تلك الانتهاكات.
هناك انتهاكات تاريخية للجيش السوداني لم تجد حظها من تسليط الضوء الاعلامي مع استمرارها بصورة واضحة في الحرب الحالية؟
نعم في المقابل ظل الجيش السوداني يمارس نفس هذه الانتهاكات منذ الاستقلال وإلى هذه اللحظة؛ ولو بقي الجيش بصورته الراهنة وبقياداته الراهنة فسوف يواصل في نهج الانتهاكات هذا ما بقي ممسكاً بالسلطة، فهو ليس جيشاً مهنياً احترافياً، لقد تحول الجيش السوداني منذ أن قام الإسلامويون بانقلابهم على النظام الديمقراطي في عام 1989، إلى مليشيا تخدم تنظيماً عقائدياً تقوم عقيدته في الأساس على أن ألا بأس أن يقتل المرء مخالفيه في الرأي ؛ فحرب الجنوب على سبيل المثال ؛ التي اشتعلت عشية الاستقلال ومُورس فيها قتل المدنيين الجنوبيين على نطاق واسع، حوَّلها الإسلاميون حين جاءوا إلى السلطة بالانقلاب في عام 1989، إلى حرب بين المسلمين والكفار، وقد شهدت حرب الجنوب انتهاكات مروعةً على مدى عقود؛ شملت حرق قرى المدنيين برجالها ونسائها وأطفالها، كما شملت اغتصابات لا عدَّ لها، وقد جرى نفس الشيء في دارفور وفي جبال النوبة وفي النيل الأزرق على مدى سنوات عديدة، وجرى في بعض تلك الانتهاكات محو مئات القرى بأكملها، من الوجود تمامًا؛ وهذا موثق بصور الأقمار الصناعية.
أما مؤخَّراً جداً، بعد أن استعاد الجيش الجزء الشرقي من مدينة أمدرمان القديمة، فقد تواترت الأنباء حول قيام أفراده بنهب البيوت في أحياء ودنوباوي والعمدة والقلعة والركابية والمسالمة وأبوروف وغيرها؛ بل وأنشأ أفراد الجيش سوقاً علنية للمسروقات في موقف صابرين للمواصلات في محلية كرري. ونجد أيضاً أن والي النيل الأبيض أمر قبل أسبوعين تقريباً سكان ولايته الذين يملكون عربات ذات دفع رباعي بتسليمها للجيش! فعلى أي قانون استند هذا الوالي سوى قانون الحرب الذي يعني اللا قانون..؟ ما قام به والي النيل الأبيض انتهاكٌ وتجاوزٌ لا يختلف عن ذاك الانتهاك والتجاوز الذي جرى من قوات الدعم السريع، ولا سبيل هنا لاستخدام معيارين، لأن المعيار واحدٌ وهو مخالفة حكم القانون في الحالتين.
لقد سبق أن قلت في تسجيلٍ راج كثيراً في وسائط التواصل الاجتماعي، أن الجيش الأمريكي على ترابط وحداته وتماسكها وحداثة أجهزته الإلكترونية التي تربط كل جندي بمسلسل التراتبية القيادية، حدثت منه انتهاكاتٌ مروِّعةٌ في العراق؛ وقد حدثت منه مثل تلك الانتهاكات في أفغانستان، ومن قبل ذلك في حرب فيتنام _ ففي العراق نهب الجنود الأمريكيون المتاحف وبيوت الناس ، كما جرت انتهاكات للأعراض _ وفي الحرب العالمية الثانية في الفترة ما بين 1932 _ 1945م أجبر الجيش الياباني 200 ألف امرأة في الصين وكوريا والفلبين وغيرها من مناطق شرق آسيا على أن يصبحن مستعبدات لممارسة الجنس مع الجنود فيما سمي معسكرات الاغتصاب – وهي معسكرات هيأها وأشرف عليها الجيش الياباني لراحة جنوده وقد تقدمت اليابان بالاعتذار عن هذه الفظائع لكلٍّ من الصين وكوريا والفلبين.
الشاهد في كل ما تقدم، أن على من أشعل الحرب ألا يشتكي من التجاوزات والانتهاكات.
وقديماً قال الشاعر زهير بن أبي سلمى :
وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ
وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ
من يرد إيقاف الانتهاكات، عليه أن يوقف الحرب، بدل أن يتحدث عن الانتهاكات، لأنه لم توجد قط حربٌ نظيفة؛ في أي زمان وأي مكان ؛ فسبي النساء ظل يجري في مل الحروب، بما في ذلك الحروب الإسلامية _ ولا يعني استمرار الحرب، ومن ثم استمرار ذوبان سلطة القانون _ سوى الاستمرار في الانتهاكات، وفي كل أنواع الفظائع التي تتبع الحرب، وعلى رأسها موت الناس بالسلاح وموتهم جوعاً ورهقاً وبسبب الأوبئة، بل وبسبب الضغوط النفسية الهائلة التي تفوق طاقة البشر على الاحتمال.
الحرب كسرت شوكة العنف التي استند عليها الإسلامويون في إبقاء السلطة في أيديهم وإقصاء جميع من عداهم
هل يمكن أن تقود تداعيات الحرب إلى تحقيق سلام مستدام يصبح قاعدة لبناء مشروع الدولة السودانية؟
تاريخنا السياسي بمجمله منذٌ الاستقلال، كان يشير إلى أن هناك حرباً طاحنة قادمة؛ كل المبصرين المدركين كانوا يعرفون ذلك _ وقد نبهوا إلى خطورة اندلاع حرب شاملة كانت كل الممارسات السياسية الخاطئة تشير إلى أنها قادمة، لا محالة وذلك! بسبب تطاول الفعل السياسي المضطرب، كليل البصيرة، لقد كانت الحرب تدور في الأطراف البعيدة من المركز وكانت الانتهاكات الفظيعة تجري منذ الاستقلال، لكن أهل الوسط والشمال لم يكترثوا لما ظل يجري عبر كل تلك العقود الطويلة؛ ولم ينتبهوا إلا بعد أن زحفت الحرب من الأطراف واشتعل أوزارها في المركز ومحيطه؛ هذه الحرب كانت ضرورية لكي تتغير بنية الوعي وسط قطاع عريض من العسكريين والسياسيين وكذلك من المواطنين، لكي ترتفع درجة الحساسية والتعاطف لديهم مع من ظلَّوا يكتوون بفظائع الحرب لعقودٍ طويلة من الزمان.
يقول بعض المراقبين مع فظاعة هذه الحرب الا انها اول حرب تحدت البندقية للحركة الإسلاموية في داخل مركزها الذي كانت تنطلق منه للأطراف في توزيع العنف!
كسرت هذه الحرب شوكة العنف التي استند عليها الإسلامويون في إبقاء السلطة في أيديهم وإقصاء جميع من عداهم عنها، حتى أضحوا مثل الضيوف في بلادهم، من يستقوي على العزل باستخدام العنف سيواجه حتماً من هو أقوى وأعنف منه _ وهذا ما حدث لصلف الاسلامويين وطغيانهم وتجبرهم، وأشعلوا الحرب فمرغت الحرب أنوفهم في الرغام وفضحتهم وسط السودانيين وعلى مستوى العالم.
عموماً، كل فترات السلم الراسخة التي نعمت بها الكثير من الشعوب عبر التاريخ القديم والحديث، لم تأت إلا بعد حربٍ طاحنة؛ لذلك أنا متفائل أن هذه الحرب، رغم هذه المأساة الضخمة التي تسببت فيها، ستكون الجسر المفصلي الذي ستعبر منه البلاد إلى حالة السلام المستدام.
هذه الحرب أوصلت العنف والوحشية إلى أقصى مدى يمكن لهما أن يبلغاه، ومن ثم فقدت فعاليتهما كأداتين لممارسة السياسة ، كان لأبد لنزعات العنف والوحشية الكتيمة المداراة لوقتٍ طويل بالزيف والتمظهر الكاذب، أن تنفجر لكي تتبرأ فقط ، حين يستوثق الناس عبر التجربة العملية بالغة الإيلام من لا جدوى للعنف، ستقوى نزعة السلام، وستسلس الحياة وتلطف، ويبدأ الاستقرار والسلام المستدام؛ حيث تبدأ التنمية الحقيقية للأفراد وللبلاد – وهو ما سيقود إلى النماء والازدهار المتصل الحلقات.