السودان – سفك للدماء والركض وراء وهم الدولة الواحدة
إسماعيل عبد الله
لماذا يموت السودانيون بالملايين (سمبلا) ركضاً وراء وهم الدولة الواحدة؟، منذ محاولة المهدي تأسيس الدولة الوطنية الأولى، التي كانت بدايتها لفظ الإمام المهدي ذات نفسه من قومه، ليلجأ إلى كرفان بحثاً عن أنصار يؤيدون إقامة دولته الرافضة للحكم التركي، مع أن الحكم التركي ورغم بطشه بالسودان المركزي، إلّا أن مجتمعات الوسط والشمال قد تآلفت معه واندمجت فيه، ويبدو هذا الاندماج واضحاً اليوم، ومنعكساً في التأثير الكبير على المفردة والخصائص الاجتماعية، بخلاف تأثير المهدية التي مازالت شعوب سودانية أوسطية تصفها بأنها استعمار وغزو خارجي، مثله مثل الغزو التركي والمصري والإنجليزي، وما أسباب إشعال حرب أبريل إلا بمثابة امتداد للرفض المقيم في الوجدان المركزي، لأي محاولة لصناعة دولة وطنية يتساوى تحت ظلها الجميع والإصرار على إطالة الحرب من قبل جنرالات الجيش المركزي، حتى ولو برهن ميناء السودان الأول للمستعمر الأول – الرجل الأبيض، مقابل عدم السماح بوجود دولة المواطنة، هذا التحجر العقلي الذي ظل ينتجه الفكر المركزي، هو الذي أوصد الباب أمام محاولات الكوشيين من الجنوب الحبيب، ودفعهم لأن يقنعوا من خيراً في تحقيق مشروع الوطن الفسيح المشترك، ولتكن العبرة بما وصل إليه أبناء كوش من النوير والدينكا والشلك والمكونات الأخرى من قناعة راسخة بعدم جدوى السير وراء هذه المهزلة، فليس من أسباب وضع حد للسيول الجارفة من الدماء طيلة السنين العجاف، التي أعقبت ما يسمى بدولة ما بعد الاستقلال، أن يقحمنا الطوباويون من المفكرين والمنظرين في فوضوية هذا المشروع الوهمي، الذي ما عادت مخرجاته تحقن قطرة دم واحدة من جسد ذلك الإنسان البريء الذي لا حول له ولا قوة، والذي وجد نفسه تحت آلة قتل طائرة ترمي بالبراميل المتفجرة لتسقطها على رأسه، وهو جالس تحت ظل شجرة في أقصى جبال النوبة وجبل مرة.
تدارك هذه الحالة الذهنية الواهمة فرض عين على كل مستنير، وتحدي إفاقة العامة من الناس من غيبوبتها واجب على كل باحث عن الحقيقة، فسلطنة المسبعات كان لها شأنها وامنها ورفاه مجتمعها، وسلطنة الفور وضعت بصمة خالدة في سجل التاريخ للعبها دوراً محورياً في نشر الإسلام بوسط وغرب افريقيا، ولها وقفتها الصلبة في صف دول المحور في الحرب العالمية الأولى، وكذلك تحالف عبد الله جماع وعمارة دنقس ولد الدولة السنارية التي لها وضعها التاريخي الصميم، هذا فضلاً عن تمرحل ممالك النوبة من نبتة والمغرة وقبلهما التاريخ العريق في تواصل الحضارتين الكوشية والكميتية، مروراً بالبجا وشأوها الأكسومي التليد، فشعوب السودان الحاضر كانت بلدان ذات سيادة واقتصاد وأعلام ترفرف بفخار السيادة الوطنية لقرون، وليس منطقياً أن يركض أحفاد هذه الشعوب اليوم وراء كذبة أطلقها المستعمر فصدقوها، فدارفور تساوي ضعف مساحة فرنسا وبها مورد بشري وحيواني وزراعي يفوق بعض من البلدان العظمى، لو وجد الإدارة الرشيدة لحققت دارفور المستحيل، فلماذا هذا الإصرار العنيد على العيش تحت مسمى وهمي لا مرجعية له (السودان)، وكردفان – المسبعات سابقاً ليست عاجزة عن صناعة المجد كدولة لا ينقصها ناقص يمنعها أن تكون أفضل من ماليزيا وسنغافورة، فالناقص الأوحد هو الاستمرار في اعتناق مهزلة الدولة الواحدة – فدرالية – ديمقراطية – علمانية – إسلامية … إلى آخر المسميات، حتى دارفور يمكنها أن تصبح ثلاث دويلات – جنوب – شمال – غرب، لكسر طوق وهم التمسك بالوحدة الزائفة وغير الممكنة ، وعلينا أن نسعى لوقف هذه الحروب العبثية المستمرة لأكثر من نصف قرن، حتى لو أدى ذلك إلى الرجوع للأصل، ولو لم يتدارك الفاعلون في الفضاء العام انعكاسات هذه الحقيقة المؤلمة، للأسف، سيستمر سفك الدماء بهذه العشوائية والبربرية.
الذين طرحوا مشروع دولة النهر والبحر يجب أن لا يلومهم أحد، بل يشجعهم على حشد الطاقات لتحقيق هذا الطموح، الذي يرونه أقصر الطرق لحماية مجتمعاتهم من بطش النخبة السياسية المتسلسلة الفاشلة، المتاجرة بأطروحة هذه المنظومة المفاهيمية الوهمية التي لا وجود لها كواقع منذ عشرات السنين، فالشيء الوحيد الذي يستحيل الحصول عليه هو إجبار الآخر على أن يعتنق ما تعتقد أنت أنه الصواب، وبهذه المناسبة أعود لبضع سنين مضت وحرب دارفور كانت على أشدها حينما كوّن الدكتور إدريس أزرق ورفاقه جبهة استقلال دارفور (جاد)، وفعلاً كانت اسم على مسمى، وكان طرحاً جاداً لوضع حد للمأساة، فلو اتبع أهل دارفور ذلك الطرح الجاد لاستفادت الدولة الدارفورية الحديثة من الفترة الزمنية التي كانت مدتها عقدين، في الوصول لتحقيق حلم الدولة الآمنة المستقرة – كما فعلت رواندا، لكن استمراء الاستمرار في طريق احتساء النبيذ المسكر لمشروع الدولة الوطنية الواحدة المزعومة والموهومة، لا يوصل الشعوب المقهورة إلا إلى جحيم الموت والدمار المقيم الذي تشهده مدن وقرى السودان الآن، دعونا نخرج من ساحة الرقص على إيقاع أهزوجة الوحدة الكاذبة، لنؤسس لأوطان مستقلة متصالحة مع جوارها مثلما فعل الجنوب الحبيب ، الذي نفاخر بفريقه الرياضي الواضع لأول بصمة للمسمى القديم (السودان) على جسد المنظومة الإنسانية العالمية ، فلو استكان دينق وملوال وأشو وبيول لإيقاع الحقيبة، لظلوا جميعهم مكدسين تحت صفيح مايو والحاج يوسف وأم بدة، يقضون نهارهم مقهورين وليلهم في معاقرة (العرقي) فلينهض أبكر ويعقوب من ركام الخرطوم، ومن دكاكين غسيل أزياء سكان العاصمة، وليذهبا ليؤسسا سيادتهما الحافظة لكرامتهما، وليخرج أوهاج من مزلة البيئة الهامشية في مركز البلاد، ليلحق بركب أحرار الشرق الساعين لتخليص الميناء من قبضة السارقين القادمين من الطينة وقندتو، وليبني كل دولته وليستنفع كل من مورده الذاتي، وكفى الله (السودانيين) شر القتال.