عن (الفقر الإستراتيجي).. سمعة جيشنا: من التأنيث إلى التلويث!!..
علي يس
(نظام التفاهة)” والذي ترجمه البعض إلى (عصر التفاهة)”، مصطلح صكه المفكر الكندي، ذو الأصل الفرنسي الدكتور (ألان برونو) وعنون به كتابه الذي – منذ صدوره في العام 2017 – ظل يشغل حيزاً ضخماً من اهتمام واحتفاء طائفة كبيرة من المثقفين، بل المفكرين على مستوى العالم.
في هذا الكتاب، ومن خلال مناقشة تأملاته وملاحظاته على النظم السياسية والاجتماعية في مختلف أنحاء العالم، وبتركيز على الدول المتقدمة، يخلص الدكتور برونو إلى أن نزوعا مقصوداً وممنهجاً، يدفع بالتافهين – بل الأكثر تفاهة – إلى مراكز القيادة، على الصعد السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، بل وحتى العلمية. وبالطبع لا ترسو أفكار الدكتور برونو عند “نظرية المؤامرة”، فهو يقرر أن الذي يجري، رغم كونه “نظاماً” يجتاح العالم، هو في الحقيقة مجرد استجابة ميكانيكية – وهذه ليست عبارته بل هي ما استخلصته من عباراته – لنهج التفكير “أو اللا تفكير” الرأسمالي المتوحش، المتعجل لجني الأرباح، والمفتقر إلى القيم والمبادئ الرفيعة. (و بما أن مقالة صغيرة لا تتيح مناقشة الكتاب ولا تتبع مقدماته الغنية جداً، أو شرح خلاصاته المتماسكة جداً، سأدع للقارئ إن لم يكن طالع هذا الكتاب، مهمة مطالعته فهو متاح على الإنترنت، لأقفز إلى (نظام ما بعد التفاهة) أو سمه “نظام الجنون” الذي تفشى في السودان منذ انقلاب يونيو ٨٩، ثم عصف بالبلاد بعد ١٥ ابريل ٢٠٢٣)..
لم يكن أمام الرأسمالية المتوحشة التي تتحكم في سياسات الدول الكبرى جميعها تقريباً، لم يكن أمامها خيار أكثر جاذبية من العمل بكل الوسائل المتاحة لها، على تنصيب عصابات من التافهين المفتقرين إلى المبادئ و القيم ، في مواقع القيادة من دول العالم الثالث ، خصوصاً تلك التي تتميز بالهشاشة و بالثروات الطبيعية، كالسودان مثالاً.
و اختيار التافهين خصوصاً، لما يتميزون به من استعداد فطري للتحول إلى لصوص صغار، يسرقون بلادهم لصالح لصوص كبار!!.. (ولعل من يتأمل التسجيلات الصوتية التي توثق حواراً بين المدعو “محمد عثمان” وبين نجل مدير المخابرات في السودان، والتي تؤكد وتوثق انشغال قيادات في الجيش بنهب ثروات البلاد لصالح لصوص أكبر، سيلحظ أصابع الرأسمالية المتوحشة خلف اللوحة المؤسفة).
وبمعزل عن الفساد المالي والأخلاقي، يبرز بقوة “الفساد الخطابي” في نظام التفاهة الممسك بخناق هذا البلد.
لا أظن القارئ بحاجة إلى بذل أدنى جهد ليدرك تفاهة الذين يتصدون لقيادة البلد المسمى السودان اليوم، لأنه، وتطبيقاً لحكمة القائل (تكلم يا بني لأراك) سيكفيه شكل الخطاب القيادي في السودان ليدرك أننا تجاوزنا عصر التفاهة إلى الجنون الخالص.
لن أشير هنا إلى مدى (استراتيجية) مخاطبات قادة في حكومة الأمر الواقع، كمثال البرهان أو ياسر العطا، كما لن أتطرق إلى جنون خطابات “الخبراء العسكريين الإستراتيجيين” الذين ظلوا، يومياً، يمرغون أنوف “الخبرة” و“العسكرة” و“الإستراتيجية” بالوحل!!.. سأهتم فقط بمدى “إستراتيجية” خطاب واحد لقيادات الجيش السوداني، ذلك الخطاب الذي بدأ قبل الحرب بـ”تأنيث” الجيش!! .. و انتهى، بعد نشوب الحرب إلى ” تلويث” الجيش المؤنث!!!..
كان بإمكان قيادات الجيش، حين أرادوا مدح قوات الدعم السريع والثناء عليها، قبل الحرب، أن يبحثوا عن عبارات أكثر “إستراتيجية”، ولكن يبدو أنهم – كعادة كل قطيع – آثروا أن يقتفوا أثر سيدهم عمر البشير، أكثر خلق الله ركاكة وتفاهة، فتغنوا بعده بعبارته الرعناء: (إن الدعم السريع خرج من “رحم” القوات المسلحة) ..
ألم تكن إستراتيجية الخطاب تقتضي تذكير القوات المسلحة، بدلاً عن تأنيثها؟؟.. ألم يكن الأبلغ أن يقولوا إن الدعم السريع خرج من “صلب” القوات المسلحة ؟؟!!..
و لكن فقر الاستراتيجية في خطابهم الركيك، انفضح بعد الحرب مباشرة، حين أسرعت بهم “الشلاقة” إلى القول: (إن الدعم السريع ابن سفاح)!!!!..
فلم يكفهم تأنيث القوات المسلحة بل تمادوا إلى تلويث سمعتها!!..
فهل يمكننا أن ننتظر ممن يفتقر إلى (إستراتيجية الخطاب) إستراتيجية في العمل العسكري، تخطيطا أو تنفيذاً ؟؟..
ليس بالأمر الهين أو الهامشي أن يفتقر خطاب قيادات الجيش إلى الإستراتيجية، ذلك لأن عواقب الخطاب الفوضوي، حتى لو صدر عن أناس أقل شأنا من قادة البلاد، يمكن أن تكون عواقب كارثية على البلاد والعباد معا. فإذا استحضرنا حقيقة أن قيادة أي بلد محترم في العالم، حين تخاطب الداخل أو الخارج، يكون خطابها الذي يمر على عشرات الخبراء والمستشارين خطاباً محسوباً بالكلمة، بل بالحرف، سندرك مدى تفاهة تفاصح قيادات بلادنا بخطابات فوضوية تجر علينا من الكوارث ما لا يطيقه بلد بالغ الضعف و الهشاشة كالسودان.
مضحك ومبك في ذات الوقت، حديث قياداتنا عن أكثر شيء يفتقرون إليه: الإستراتيجية!!!..