“البلباصية”.. أم وضاح (1).
إيهاب مادبو
التاريخ يكتبه الرجال والسلام يصنعه الشجعان
في مجتمعات البقارة بحزام السافنا تكثر هذه العبارة “البلباص” وهي تورد في سياقات التوصيف للشخص غير المسؤول وغير الجاد في تصرفاته فيقال عند مجالسهم بالضرا “ول فلان داك بلباصي وكلاما ما تطلعوا بيه العنقريب”.
وبالضبط هو ما ينطبق هذا التوصيف على المتصحوفة التي صنعتها الصدفة وحدها حنان عبد الحميد (أم وضاح) التي دخلت العالم الصحافة حينما تقزم العمالقة وتطاولت الأقزام لتصبح صاحبة بلاط الجلالة هي مهنة المتسكعين بجيوب المسؤولين.
والبلباصية (أم وضاح) تمثل خلية إعلامية وفريق عمل متكامل من (البلباصين) الذين يديرون خطاب الحرب وهم بالخارج بعد ان يستلقي أحدهم على ظهره ويحرك ريموت القنوات عن الاخبار وهو في وضع مطمئن ومنزل مشيد بالأمن والطمأنينة فيقومون ببث خطاب الكراهية والتحريض بسفك المزيد من الدماء على اشلاء الوطن الممزقة.
يقومون بهذه المهمة كلما لاحت في الأفق سحابة خير بانقشاع الأزمة وإنهاء الحرب فيشعلون اعود الثقاب على (عويش) الاوضاع الاجتماعية التي تم تغذيتها وشحنها بخطاب الكراهية والتحريض لدرجة أصبح فيه التنميط الثقافي سؤالا قاتلا ومميتا في ذات الوقت حينما تكون الإجابة عليه هو الموت لامحالة.
ومن قبل لعب مزمل أبو القاسم ذات الدور المرسوم بدقة وعناية حينما تم تسريب لقاء (المنامة) له دون غيره من الصحافيين او حتى وكالات الأنباء فأستل هؤلاء (البلباصين) سكاكينهم ضد الاتفاق وتخوين الكباشي كمخطط يسعى لإجهاض التفاوض بأسلوب دنئ ورخيص يسترخص الدماء والمعاناة التي يعانى منها السودانيين بسبب هذه الحرب اللعينة.
ورواية طبول الحرب للروائي هيثم حسين الصادرة عن دار (ورق) تقدم مقاربة فكرية وتأملية فيما يمكن ان نسميه بضرورة مواجهة اصحاب خطاب الكراهية لاستعادة إنسانية الإنسان بأبعادها الاجتماعية والاخلاقية المستلبة قسرا تحت وطأة التحريض بسبب الحروب والصراعات بكل اشكالها، أياً كانت الشعارات التي ترفعها، سواء أكانت بمضامين دينية، كما كان عليه الأمر في القرون الوسطى، أم بمفاهيم ومصطلحات اجتماعية، مثل قيم الحرية والعدالة والمساواة، كما في الثورة الفرنسية وما تلاها من حروب حتى اللحظة الراهنة.
والقادة الأكثر شجاعة وعزيمة في تاريخ البشرية هم الأقدر على صنع السلام وهذا ما تعلمناه من دروس التاريخ. فنيلسون مانديلا الذي قضى 27 عاماً في السجن من دون أن تضعف إرادته، كان الزعيم الذي اختار أن يتجاوز تاريخا من الاضطهاد والعنف والتمييز العنصري، وأغلق الباب أمام نزعات الانتقام والحقد، وفتح لبلاده طريق الصفح والسلام. وكذلك فعل غاندي الذي تحدى الإمبراطورية البريطانية في أوج قوتها، ثم كرَّس كل جهوده من أجل السلام.
وحينما نتحدث عن السلام، فقد يبدو أنه مفهومٌ بعيد المنال (للبلباصين) ولكن الحقيقة هي أن السلام ليس مجرد حالة عابرة من عدم وجود الصراعات، بل هو عمل مستمر يتطلب الجهود المشتركة للأفراد والمجتمعات لبناء عالمٍ أكثر سلامًا واستقراراً، فالجبناء لا يصنعون السلام لذا يمكن اعتبار السلام حرفة الشجعان.
وطالما ثبت تاريخيا ان اغلب معارك السلام خاضها شجعان وانتصر بها الشجعان الذين لديهم القدرة على خلق الفرص من رحم الحرب والموت وذلك لأن الجبناء يخافون من المخاطر والصعوبات التي ترافق عملية صنع السلام ويخافون من غياب ادوارهم التي حصلوا عليها في زمن الحرب، ولكن الشجاعة تكمن في التغلب على هذه المخاوف والاستمرار في السعي نحو السلام، فالشجاعة ليست مجرد غياب الخوف، بل هي القدرة على التصرف.