في “الليونة”
تَرافَقنا فجر أمس، ثلة من الإخوة والأصدقاء (الأستاذ د. محمد محجوب هرون الأستاذ بجامعة الخرطوم، الأستاذ المسلمي الكباشي مدير مكتب قناة “الجزيرة” بالخرطوم، الأستاذ ضياء الدين بلال رئيس تحرير صحيفة “السوداني” والأستاذ يوسف عبد المنان الكاتب والصحفي المعروف، الأستاذ عبد الباقي الظافر الصحفي والكاتب والمحلل السياسي)، ويمّمنا شطر الصعيد، إلى جنوب مدينة سنجة بولاية سنار منطقة (الليونة) التي عُرفَت في التاريخ الحديث بمشروعها الزراعي والتعايُش السكاني الفريد بين قبائل المنطقة فيها وما جاورها، ذهبنا لأداء واجب العزاء في والد زميلنا الأستاذ الإعلامي الكبير فوزي بشرى بقناة “الجزيرة”، الشيخ بشرى آدم الذي تُوفّي الأسبوع الماضي، تغمّده الله بواسع رحمته وأنزل على قبره شآبيب رحمته وغُفرانه..
من الخرطوم حتى وجهتنا، الأرضُ لبست سندساً أخضر بهيجاً، وظللتنا غمامات الخريف برهوِها ونشرت بُردتها علينا، كانت نقاشات السياسة والفكر والأدب والتاريخ والثقافة والشعبيات السودانية والشعر حاضرة بيننا على طول الطريق في السيارتيْن اللتين أقلّتانا إلى هناك في ست ساعات من عاصمة البلاد حتى تلك الأصقاع القصية، ألقى الواقع السياسي بأثقاله على حواراتنا الطويلة أثناء الرحلة، وفي منطقة “الليونة” التي وجدنا أهلها وأسرة الأخ فوزي تحمل معنا ذات الهم، والكل يظمأ إلى ما يروي غلة الصادي من أحاديث السياسة والمعلومات حول التشكيل الحكومي المُقبل ومستقبل الشراكة القائمة، ومآلات البلاد وهي تدخل مرحلة جديدة.
على طول الطريق، ونحن نعبر ولاية الجزيرة من شمالها حتى حدودها الجنوبية مع ولاية سنار التي عبرنا فيها حتى تخوم مدينة سنجة مع ريفها الجنوبي، تبدّت صورة البلاد الحقيقية ونبضها الذي لا يكذب، فالناس في كل المدن والقرى التي مررنا بها، لا يكترثون كثيراً ولا يتابعون، ألاعيب السياسة التي تجري في الخرطوم، ولا ينشغلون بمن تمّ تعيينه في حكومة السيد حمدوك، ومن الذي أبعده الفحص الأمني، ومن الذي لم يتوافَق عليه الشركاء، كل ما يدور في أروقة السياسة في الخرطوم لا يتابعه المواطن هناك المنشغل بلقمة العيش وتوفّر الخدمات، فمنذ أن خرجنا من الخرطوم لم تنقطع صفوف المواطنين أمام المخابز التي تفتح على الطريق العام في كل قرى ومدن ولاية الجزيرة، كأنما كُتِب على السودانيين أن يكونوا مُستَعبَدين لدقيق القمح وأكل الرغيف..
لا ترى في ولايتي الجزيرة وسنار إلا منظر المروج والروابي الخُضر، والمياه التي غمرت كل مكان، وفيضان النيل وهو يجتاح كل مكان محاصراً القرى ومهدداً الطريق القومي نفسه، وترى قطعان الأغنام والماعز والضأن والأبقار مرحى في مراعيها، ومَزارِع السمسم وزهرة الشمس والذرة على امتدادات الطريق تُغطّي وجه الأرض الولود، والحركة الدائبة للمواطنين وتنقّلاتهم من مكان إلى آخر لا تتوقّف رغم شُح الوقود وصعوبة الحصول عليه، فحركة البصات السفرية إلى مدني وسنجة والدمازين وسيارات الأجرة إلى مناطق أخرى على الضفاف الشرقية للنيل الأزرق لا تتوقف أبداً، وتعكس حجم التطوّر الاقتصادي والاجتماعي الذي طرأ.
هموم المواطنين وقضاياهم ستكون مُعضلةً كبيرةً بالنسبة إليهم في زحام الساسة في الخرطوم، فهؤلاء القاطنون في الأرياف والولايات، هُم علي هامش الحياة وعلى هامش اهتمامات السياسيين، لا يعلم الساسة في عاصمة البلاد أن الحُمّيات والملاريا بسبب تردّي البيئة والانتشار المخيف للبعوض والذباب وحشرات أخرى وزواحف، ونقص الأدوية وانقطاع الكهرباء وانعدام الماء النقي، وقلة الاهتمام الحكومي هي التي تشغل بال المواطنين، فلا يلتفتون لاقتسام السلطة ولا التكالُب على المواقع الوزارية، ولا الجَلَبة التي تُثيرها الطبول السياسية التي تدق صباح مساء.
الدولة بكامل أجهزتها والحكومة بكل مستوياتها عليها أن تُوجّه جُل اهتمامها وانشغالاتها للمواطنين البسطاء الكادحين المغلوبين على أمرهم في كل ولايات السودان، فالفقر والمرض هما سمة المواطنين بلا استثناء، والضوائق المعيشية الصعبة والقاسية وطأت على الناس وسحقت قدرتهم على الاحتمال، وأطفأت الآمال في النفوس، فهذه هي القطاعات المُنتجة في المجالين الإنتاج الزراعي والحيواني، أهم ركيزتين للاقتصاد، ولا تعويل إلا علي هذين المجالين لإصلاح الاقتصاد بزيادة الإنتاج والتصدير، فلو أُهمِل هؤلاء البسطاء في الريف سينتكِس الاقتصاد أكثر، وتفقد الدولة مواردها الأساسية، وسنحصد الفشل في كل شيء.. الاهتمام بالريف هو المدخل الوحيد للاكتفاء وزيادة الإنتاج وتحسين الأداء الاقتصادي..