حرب السودان.. أنلوم الإمارات أم نحذو حذوها؟!
منعم سليمان
يهرب كثيرون من تفسير هزائم الجيش المتتالية وضعفه، الذي كشفته هذه الحرب لدرجة أنه لم يحقق نصراً كبيراً واحداً ضد قوات الدعم السريع منذ بدء الحرب. وهذا الهروب الجماعي من مواجهة الإجابة، الذي تمارسه الكثرة الكاثرة من الشعب، ناتج عن الخوف، وهو خوف من مواجهة الحقيقة وإدمان العيش في الرغائب والخيال والأوهام. وهذا إحساس لا يقتصر على عوام الشعب، وإنما تمارسه النخبة، بأعداد مخيفة للغاية!
هذا الهروب من الواقع هو نتيجة طبيعية للهزائم النفسية التي نعيشها، والتي أنتجت بدورها هذا الكم الهائل من الزيف والإنكار، والعيش على ماضٍ ولى ولن يعود، والتغني بأمجاد اندثرت، والعيش في أوهام وأساطير ليس لها محل إلا في أذهان العوام والدهماء. وكان من الطبيعي في ظل هذا المناخ الكاذب، الزائف أن يواصل الناس العيش في خداعهم المستمر، فيتوهمون رغبةً وخيالاً أن الجيش الحالي هو ذات الجيش المتخيل، الذي يعشعش في أدمغتهم من قصص الأجداد المتوارثة عنه، وبالتالي فان مجرد انتقاده أو الحديث عنه، إنما هو خيانة ومنْقصَة للوطنية (!).
وما لم نقر ونعترف بواقعنا الحقيقي ونتعافى من حالة الوهم والزيف والأسطورية التي تظلل حياتنا، فلا جيشٌ سينتصر، ولا وطنٌ سيعمر، ولا سودان سيظل بحدوده الحالية. وأول هذه الإقرارات والاعترافات الصادقة والصادمة في آن هو أن نعترف بحقيقة هذا الجيش، وهي أنه ليس بجيش السودان، ولا عقيدته هي عقيدة الجيوش المهنية الوطنية المعروفة، ولا به من الجنود ما يكفي لخوض الحروب، إلا على ورق دفاتر الحسابات، التي تلتهمها “كروش” الفاسدين أواخر كل شهر.
والحقيقة المجردة، التي لا ينكرها إلا مكابر لجوج، هي أنه جيش عقائدي اختطفته واختصت به أقلية عقائدية فاسدة تستخدمه في السيطرة لتحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية، ولا علاقة له بالدفاع عن سيادة السودان وشعبه. هذه هي الحقيقة، شاء من شاء، وأبى من أبى، أو عيشوا هزائمكم مدى الدهر!
إن أولى مراحل التقدم والاستقرار والازدهار للدولة – أي دولة – هي اعتراف شعبها ببعضه البعض، ومن ثم اتفاقه كله على تاريخه، وكتابة وثيقة تاريخية جديدة تعبِّر بحق وعدالة عن واقع البلاد وقدراتها وإمكانياتها، وركل الأساطير والخرافات والأوهام، والعيش مع الواقع كما هو، ومن ثم بناء وتأسيس البلاد على هذا الواقع. هذا هو الحل، أو هكذا هي قناعتي ورؤيتي للحل.
إن تجربة اليابان خيرُ دليل ومعين لكل شعب ودولة تبحث عن الانطلاق والنهوض، فاليابان التي تتربع حالياً على عرش النهضة والتقدم والتكنولوجيا والازدهار، إنما تقدمت ووصلت إلى ماهي عليه الآن بعد أن قاست تجارب مريرة، أنتجت نقداً ذاتياً عسيراً، وكانت حينها أمة خانعة وقاعدة وقاسية، لم تحدث نهضتها إلا عندما واجهت كارثة كبرى، علمتها وجعلتها تفيق من أوهامها وخرافاتها، وتكتشف واقعها المرير. إذ إن اليابانيين، الذين نراهم الآن ينحنون تأدباً أمام كل كبير وصغير عند التحية والسلام، لم يكونوا سوى شعب قاسٍ ومتعجرف ومنتفخ بالزيف والغرور الكاذب، وهو شعور كان مصدره أسطورة متوارثة تقول إن إمبراطورهم في تلك الفترة – الحرب العالمية الثانية – وهو الإمبراطور “هيروهيتو”، ليس بشراً مثلهم، بل هو إله وسليل عائلة كلها من الآلهة المقدسة، عائلة لا تخنع ولا تهزم، بل تأتي بالخير والبركة لشعبها مهما تأخر. ولم يفيقوا من هذا الوهم إلا عندما سمعوا صوت إمبراطورهم عبر أجهزة الراديو، وهو يحشرج وينتحب مذيعاً على أسماعهم بيان استسلام اليابان أمام جيوش الحلفاء. حينها فقط سقطت أوهامُهم، وسقطت معها قداسته، ومن هنا بدأت نهضة اليابان .
والحال كذلك، والشيء بالشيء يذكر، لابد لنا هنا أن نستصحب معنا نهضة دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة، وهي دولة قريبة وحديثة، عمرها نصف قرن تقريباً من الزمان، حباها الله بثروات طبيعية هائلة، ولكن لم يتكيء شعبها على ظلال هذه الثروة ليتأملوا الإبل كيف خلقت، ويتذوقوا حليبها، وهم ينشدون الشعر متغنين بأمجاد أجدادهم، الذين قهروا الصحاري، وحافظوا على تراث القبيلة وتقاليدها، بل استثمروا ثرواتهم في تعليم الأبناء والأحفاد وتشكيل رؤية وطنية جامعة، ووضع استراتيجية نهضوية شاملة، واستجلاب الخبراء من كل حدب وصوب، والسخاء معهم والتعلم منهم، كما فعلت بلاد كثيرة في العالم، ومنها الولايات المتحدة الأميركية، وهي نفسها حديثة التاريخ. فبنوا بذلك مجداً جديداً على أمجاد أجدادهم، وأسسوا نهضة يشار إليها اليوم بالبنان، وصارت مدنهم – دبي مثلاً – لا تذكر إلا وتذكر معها طوكيو ونيويورك ولندن وبرلين وبكين وسيدني، وغيرها من عواصم المال والرقي والجمال، مؤكدين لنا بأن البلدان لا تبنى بالمساحة والحجم والتاريخ، وإنما بحكمة وعزائم الرجال والنساء المخلصين، وكدهم وتواضعهم، فكتبوا مساحة لدولتهم تضاهي مساحة “روسيا” على خارطة العالم الجديد.
وقد بلغوا من التنمية والنهضة مبلغاً جعل عضواً بالكونغرس الأمريكي يضرب بشوارع دبي والعيش فيها مثلاً في الحداثة والتطور.
أقول هذا وأمامي الآن خبراً نشرته أمس جميع وسائل الإعلام العالمي، وهو محفزي للكتابة عنها هنا، والخبر مفاده نجاح جهود وساطة الإمارات بين روسيا وأوكرانيا في إطلاق سراح (180) من أسرى الحرب بين الدولتين الكبيرتين.
هذه (روسيا) نفسها، التي تتوسلها حكومة “إخوان” الأمر الواقع في بورتسودان، أو بالأحرى (بورتكيزان)، لتستعمر أرضهم مقابل مساعدتهم في حربهم المدمرة، وهذه هي (الإمارات) التي يطلق عليها إعلام الإخوان المتأسلمين الفاسد “دويلة”، فأين الدولة هنا وأين الدويلة؟.
نحن في أمس الحاجة إلى تقديم نقدٍ ذاتيٍ صادق، وإلى التواضع قبل ذلك، والتعايش الحقيقي مع الواقع، من أجل العيش بسلام واستقرار والنهوض ببلادنا وازدهارها. وهذا قطعاً لن يتأتى في ظل وجود جماعة الاخوان المسلمين على الساحة، ووجود دولة أمنية قمعية هشة أساسها فسدة وصعاليك وإخوان، وكذلك عسكر.